الأربعاء، 1 يونيو 2005

هكذا قال الجاحظ


عندما ننظر إلى الوراء في تاريخنا العربي الترجمي، نرى عصرًا زاهرًا بالترجمة احتضنه بيت الحكمة، ونرى مترجمين بارزين ما زلنا نفخر بهم وبإنتاجهم الذي علّمنا ما لم نكن نعلم، وأعاننا على دراسة وتعليم من لا يعلم. ولا نبالغ إن قلنا بأن ذلك العصر كان ثورة ترجمية حقيقية ندر وجودها في التاريخ. وربما كان (بيت الحكمة) أول مؤسسة ترجمية منظمة تتبنى هذا المنهج الثقافي وتجعله بؤرة إنتاجها وخلاصة سيرورتها. بيد أن الملفت للنظر هو غياب التنظير والتوصيف لذلك النشاط الكثيف والقافلة الترجمية الطويلة، فيما شهدت حضارات أخرى تنظيرًا ترجميا لم تكن وراءه مؤسسة مثل بيت الحكمة. نقرأ في التاريخ عن كتابات قديمة في الترجمة لشيشرون والقديس جيروم ومارتن لوثر، ثم درايدن ونيتشه وجوته، وبعدهم كثير مثل نابوكوف وعزرا باوند. وعندما نلتفت إلى الكتابات العربية القديمة لا نكاد نجد من كتب عن الترجمة من الأدباء والشعراء واللغويين وحتى المترجمين أنفسهم. ودائما لا نجد اقتباسا ترجميا من القدماء العرب إلا ما قاله الجاحظ في كتاب الحيوان، حتى ليبدو أنه العربي الوحيد الذي تكلم في الترجمة قديمًا!

ولأن مقولات الجاحظ في الترجمة كثيرًا ما تتردد في الأوساط الترجمية العربية، كان لا بد من وقفة مع هذه المقولات لتحليلها والتعقيب عليها، خصوصًا بعد الفيضان النظري في دراسات الترجمية الغربية والعربية حديثًا. وفيما يلي سوف أسرد ما ذكره الجاحظ على شكل مقولات، ثم أعقب عليها بإيجاز.

المقولة الأولى: "ثم قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له: إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قاله الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على الجري، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها والإخبار عنها على حقها وصدقها. إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه، فمتى كان رحمه الله تعالى ابن البطريق، وابن ناعمة، وابن قرة، وابن فهريز، وثيفيل، وابن وهيلي، وابن المقفع، مثل أرسطاطاليس؟! ومتى كان خالد مثل أفلاطون؟".

في مستهل الفقرات الشهيرة عن الترجمة، يسرد الجاحظ أولا قائمة بشروطه الصارمة في المترجمين، وتبيّن المقولة أعلاه أول هذه الشروط. يقول الجاحظ إن المترجم لا يستطيع نقل المعنى الدقيق للنص الأصلي نقلا أمينا إلا إن كانت معرفته مساوية لمعرفة مؤلف النص الأصلي. ويبدو هنا أن الجاحظ يريد توضيح أمرين هامين: أولهما إن معرفة المترجم لا بد أن تكون مثل معرفة المؤلف ومساوية لها، وثانيهما أنه في حالة تعذر ذلك، لا يستطيع المترجم الوفاء للنص الأصلي. ونلاحظ في نهاية المقولة سخرية واضحة قد نستشف منها عدم اقتناع الجاحظ بإمكانية الوفاء في ترجمة النص الأصلي نظرًا لعدم توافق المترجم والمؤلف.

وعلى الرغم من هذا الشرط الصارم، إلا أن الجاحظ لا يريد بالتأكيد منع الترجمة. ربما ما يروّج له الجاحظ في مقولته هو التخصص في الترجمة، حيث يترجم المختص في مجالٍ معين النصوص الواقعة في مجاله، فالطبيب يترجم الطب، والمهندس يترجم الهندسة، وهكذا. نخلص من ذلك إلى أن الجاحظ لا يكتفي بالمعرفة التي يتحصلها المترجم في مجالٍ معين عن طريق القراءة والاستشارة والإلمام، دون أن يكون هو ضمن ذلك المجال. وربما كانت هذه الفكرة شائعة في عصر الجاحظ، حينما كانت هناك مجموعات من الأطباء والعلماء المترجمين.

أما الأمر الآخر الذي يثيره الجاحظ في المقولة أعلاه فهو ضرورة إلمام المترجم بفكر وأيديولوجية مؤلف النص الأصلي، حتى يؤدي "حقائق مذاهبه"، فلا يزجّ بشيءٍ في الترجمة ينافي فكر المؤلف الأصلي ويدحض مسلماته. يؤمن الجاحظ أن المترجم يجب أن يكون عارفا بمعتقدات وفلسفة من يترجم له. وجديرٌ بالذكر أن أساتذة الترجمة الآن ينصحون طلاب الترجمة بقراءة كتابات مؤلفٍ ما، وما كُتب عنه قبل ترجمته، حتى تتكون لديهم فكرة كافية عن أسلوب المؤلف وفكره وفلسفته.

وأخيرًا نلاحظ من كلام الجاحظ استخدامه لمفهوم "الوفاء والخيانة" في الترجمة، وذلك قبل أن تشيع العبارة الإيطالية الشهيرة "الترجمان خوّان". ليس من الواضح تمامًا كيف بدأ ربط هذا المفهوم بالترجمة، وما إذا كان اليونانيون قد بدأوها ثم استخدمها الجاحظ عنهم، ولكن لا أعلم شخصيا ما يشير إلى ذلك. ربما كان العقل البشري في كل الحضارات "مؤهلا" لاستخدام استعارة "الوفاء" مع الترجمة.

المقولة الثانية: "ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها، حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات".

تُعتبر الجملة الأولى من هذه المقولة الأشهر إطلاقًا في الترجمة عند العرب، وهي تعتبر إعادة للشرط الأول. وهنا يقول الجاحظ إن الأسلوب الذي يتبعه المترجم في استخدام اللغة لتبيان المعنى يجب أن يعكس معرفته بموضوع النص، فعلى قدر "علمه" يكون "بيانه". هل لنا أن نستنتج من ذلك أن الجاحظ يشجع المترجمين على أن يكونوا مؤلفين، لا مترجمين فقط؟ من الواضح أنه لا يريد للمترجمين أن يظهروا في ترجماتهم أقل قدرًا من المؤلفين، بل يجب أن تظهر الترجمة وكأنها من كلام المترجم.

بعد ذلك يتحدث الجاحظ عن مسألة الإتقان في اللغة، وكيف تتداخل اللغتان في لسان متحدثهما. يشترط الجاحظ أن يكون المترجم متقنا للغتين اللتين يتعامل معهما. ويشير في هذه المقولة إلى ظاهرة لغوية كثيرًا ما نلاحظها نحن المترجمون، ألا وهي تأثير اللغتين على بعضهما البعض، حينما يحدث ما يشبه الترجمة الذهنية الفورية، فيستخدم المتكلم عبارةً أجنبية بلغته الأم، أو يستخدم أسلوبًا في لغته الأم بحروفٍ أجنبية. لذلك، لا يحبذ الجاحظ أن تكون للمترجم أكثر من لغتين، فكلما زادت اللغات، كلما نقص إتقانه لها.

وختامًا نستطيع أن نخلص إلى أن الجاحظ يشجع إنتاج الترجمات التي تبدو نصوصًا أصلية لا تشوبها تدخلات اللغات الأخرى ، على خلاف بعض المنظرين الذين يصرون على "أجنبية النص" ووجوب احتواءه على عناصر اللغة الأجنبية. وإذا استعرنا مصطلح (لورنس فينوتي)، فإن الجاحظ يؤيد "خفاء المترجم" النصي، أي عدم وجود ما يشير إلى أن العمل مترجم.

المقولة الثالثة: "هذا قولنا في كتب الهندسة، والتنجيم، والحساب، واللحون، فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله -عزل وجل- بما يجوز عليه مما لا يجوز عليه، حتى يريد أن يتكلم على تصحيح المعاني في الطبائع، ويكون ذلك معقودا بالتوحيد، ويتكلم في وجوه الإخبار واحتمالاته للوجوه، ويكون ذلك متضمنا بما يجوز على الله تعالى، مما لا يجوز، وبما لا يجوز على الناس مما لا يجوز... ومتى لم يعرف ذلك المترجم أخطأ في تأويل كلام الدين. والخطأ في الدين أضر من الخطأ في الرياضة والصناعة، والفلسفة والكيمياء، وفي بعض المعيشية التي يعيش بها بنو آدم".

المقطع السابق عبارة عن مقتطفات من فقرة طويلة يتحدث فيها الجاحظ عن صعوبة ترجمة النصوص الدينية، وهو يريد في الحقيقة إثبات استحالة مثل هذه الترجمة. يبدو أن الجاحظ كان ضد ترجمة القرآن، حيث كانت هذه المسألة قائمة في عصره. وموقف الجاحظ هذا من ترجمة النصوص الدينية لا يعتبر غريبًا البتة، فقد كانت ولا زالت مسألة ترجمة النصوص الدينية في كل الحضارات شائكة جدًا، وما حصل للقديس جيروم مترجم الكتاب المقدس يشهد بذلك. أما ترجمة القرآن، فما زالت إلى اليوم غير مشروعة، وما يحلّ ترجمته هو معاني القرآن لا القرآن نفسه. وبعيدًا عن موقف الجاحظ، لا بد من الاعتراف بموضوعية النقاط التي احتج بها في صعوبة الترجمة الدينية، والمتمثلة في إمكانية الخطأ في توضيح المعتقدات، والخلط بين الأحكام التشريعية، والوصف الغير جائز للذات الإلهية، هذا إلى جانب صعوبة وحساسية ترجمة الحجج والمناظرات الدينية العقائدية. ويعزز الجاحظ حجته بأن تبعات الخطأ في ترجمة النص الديني أكبر مصيبة من الخطأ في النصوص الأخرى، وهذا معروف في دراسات الترجمة الحديثة، الأمر الذي يدفع أبناء دينٍ معين لتحريم ترجمة كتبهم المقدسة إلا إذا كان المترجم منهم.

المقولة الرابعة: "وما علم المترجم بالدليل عن شبه الدليل؟ وما علمه بالأخبار النجومية؟ وما علمه بالحدود الخفية؟ وما علمه بإصلاح سقطات الكلام، وأسقاط الناسخين للكتب؟ وما علمه ببعض الخطرفة لبعض المقدمات؟ لا بد أن تكون اضطرارية، ولا بد أن تكون مرتبة، وكالخيط الممدود... "ولو كان الحاذق بلسان اليونانيين يرمي إلى الحاذق بلسان العربية، ثم كان العربي مقصرا عن مقدار بلاغة اليوناني، لم يجد المعنى والناقل التقصير، ولم يجد اليوناني الذي لم يرض بمقدار بلاغته في لسان العربية بدا من الاغتفار والتجاوز، ثم يصير إلى ما يعرض من الآفات لأصناف الناسخين؛ وذلك أن نسخته لا يعدمها الخطأ، ثم ينسخ له من تلك النسخة من يزيده من الخطأ الذي يجده في النسخة، ثم لا ينقص منه، ثم يعارض بذلك من يترك ذلك المقدار من الخطأ على حاله، إذا كان ليس من طاقته إصلاح السقط الذي لا يجده في نسخته ".

في هذه الفقرة يكلف الجاحظ المترجمين بدورٍ أكبر من مجرد الترجمة، حيث يريد منهم أن يكونوا محللين للنصوص التي يترجمونها، فيقرأونها قراءة نقدية ويثبتون الأخطاء الواقعة فيها. إن ما يريده الجاحظ من المترجمين هو أن يقوموا بتحقيق النصوص وتنقيحها من الشوائب النحوية والإملائية وغيرها. ومن الواضح أن الجاحظ ينظر إلى الترجمة على أنها مهمة وتكليف لا يؤديها مجرد "النقل"، بل تمتد إلى عملية إنتاج نص كاملة.

وفي الجزء الثاني من المقولة نلاحظ اللوم الذي يضعه الجاحظ على كلٍ من الناسخ المهمل والمترجم الجاهل، حيث يتهكم من الأخطاء التي يسببها الناسخون الذين لا يؤدون عملهم بإتقان، ثم يسحب نفس المنطق على المترجمين الجهلة، الذين يضيفون على أخطاء النسخ أخطاءً ترجمية. في الحقيقة، إن المتأمل في هذه المقارنة ليجد حكمًا كثيرة توضح المعنى الحقيقي للترجمة والمترجم. بكل بساطة نستطيع تشبيه المترجم الجاهل بالناسخ الذي ينقل حروفًا لا يفقه معانيها، وبعبارة "أقبح" نشبهه بالحمار الذي يحمل أسفارًا. ما يريده الجاحظ هو أن الترجمة ليست "نقلا" أو "نسخا" بل عملية ذهنية لغوية تشارك في إنتاجٍ ثقافي لا يقل عن التأليف.


المرجع:
الجاحظ، كتاب الحيوان، موقع الوراق الإلكتروني، ص24-25.

الأربعاء، 2 مارس 2005

حوار مع صديقي المانشستري


تهللت أسارير النادل الإيراني فور رؤيتي وصاح: "شاي منعنع؟". ابتسمتُ وفرشتُ الأوراق على الطاولة نفسها في كل مرة ورحتُ أعمل. لم أنتبه للمرتاد الإنجليزي الذي دخل بعدي واتخذ مقعدا بالقرب مني. كنتُ غارقاً في عملي وترجمتي ولم أتطلع إلى وجوه الشرقيين وغيرهم في المقهى كما تعودتُ كلما أخذني الحنين إلى الشرق. "اسكيوز مي، مَيت". خمّنتُ من لهجته أنه من أبناء مانشستر، واستغربتُ في الوقت ذاته أن يبدأ الحديث معي، فليست من عادة أحفاد تشرشل البدء بالحديث مع الأجانب بالذات، ولكن أعتقد أن الحروف "الهيروغليفية" التي أمامي شدّت انتباهه.

- ما تلك اللغة على تلك الأوراق؟
- اللغة العربية.
- أتدرس الدراسات الإسلامية هنا في مانشستر؟
- لا، بل أدرس الترجمة بين العربية والإنجليزية.

لاحظتُ تغيّر قسمات وجهه، وتقارب رمشيه من خلف نظاراته السميكة فيما يدلّ على ابتسامة خافية. إلى هنا انتهى الحديث وعدتُ إلى أوراقي.
بعد دقائق، عاد يحدّثني من جديد.

- عفوا، هل لي بسؤال؟
- طبعا.
- لماذا في رأيك يجمع العالم، بل وحتى أنتم المترجمون على أن المترجم خائن أو الترجمة خائنة؟

استفزّني هذا السؤال..واستنتجتُ أنه لا يسأل من واقع جهل، بل لغاية في نفس يعقوب. عدّلتُ من جلستي، ولكن قلتُ بنبرة تخفي شعوري:

- ما رأيك أنت؟
- رأيي أنا- ولا إهانة أقصد- أنه مهما حاول المترجم واجتهد، فإنه لا بدّ أن يخون النص الأصلي. عندما تقارن النص الأصلي والترجمة، لا تجد القوة نفسها والعمق نفسه. من الطبيعي أن تحس بوجود شيء ناقص كنتَ قد أحسستَ به في النص الأصلي، ومهما امتلك المترجم من زمام لغته ولغة النص الأصلي، للأسف لا يستطيع إنتاج نفس الروح. وأنت تعرف بالتأكيد أن هناك أشياء في اللغة لا تنتقل مع الترجمة. وبما أن عملية الترجمة بين اللغتين احتوت على فقدانٍ ما ينتقص من كمالها، فهناك خيانة.

أحسستُ بأن هذا المانشستري يعي ما يقوله جيدًا، ويجيد الجدل، فأدركتُ أنني في موقف صعب.

- دعنا نناقش الموضوع يا سيدي. أولا، ما طبيعة العلاقة بين المترجم والنص حتى تكون هناك خيانة؟ هل تتصور أن الترجمة هي علاقة زوجية يكون فيها المترجم طرف يخون الطرف الآخر؟ ولا تنس أن كلمة خيانة يترتب عليها التسليم بوجود عهدٍ قطعه المترجم ثم تنكّر له.
- أنت تؤكد المقولة ولا تفنّدها، فوجود العهد أمرٌ بديهي. كل شيء قائم على عهدٍ بتحقيق الغاية من وجوده، والوفاء بهذا العهد هو ما يضمن وجوده، فإن انتقض العهد زالت الكينونة. هذا القلم الذي بين يديك متعهد لك بمساعدتك على الكتابة، وما أن يكف عن خدمتك ويبلى، يُصبح وجوده بلا قيمة. وفي كل عملٍ يوجد عهد بديهيّ على الإتقان. المترجم بالفعل يقطع على نفسه عهدا ضمنيا بنقل النص الأصلي نقلاً كاملا "أمثل" دون حذفٍ أو إضافة. وأنت تدرس الترجمة وتتبحر فيها كي تتقن الوفاء بهذا العهد.
- لا أختلف معك في مسألة العهد والكينونة، ولكن لنتفق على الغاية من الترجمة. مقولتك تصوّر أن الترجمة "المثلى" هي نقل ما في النص الأصلي نقلا مطابقا دون زيادة أو نقصان، وإلا انتقض العهد ونتجت خيانة. من قال لك ذلك؟ من أين أتيت بهذه المسلّمة؟ استعارتك هذه تجعل من النص المترجَم وعاء نصبّ فيه النص الأصلي عبر قناة هي المترجم الذي يحوّل الكلام من لغة إلى أخرى فقط. عندما تتكلم عن النقل فأنت تصوّر النص الأصلي على أنه أداة محسوسة كصندوق أنقله من مكانٍ إلى آخر، ويجب ألا أضيف عليه أو أنقص منه شيئا.
- أوليس هذا ما تقولونه أنتم أنفسكم أيها المترجمون واللغويون؟

قال ذلك والتقط كتابًا من كتب دراستي. فتح صفحاته الأولى وقرأ بنبرة استهزاء لا يخفيها:" الترجمة هي عملية نقل المحتويات اللغوية وغير اللغوية من نص بلغةٍ ما إلى نص آخر بلغة أخرى. أنتم الذين تتحدثون عن (نقل) اللغة. بل أكثر من ذلك أن كلمة ترجمة في لغاتٍ عديدة مشتقة من النقل.
- دعك من تعريف الكتاب غير المقدس هذا، ولنتحدث في اللغة التي تزعم أن الترجمة تنقلها. اللغة في كل مكانٍ عبارة عن نظام من رموز صوتية أو كتابية في سياق اجتماعي له دلالات خاصة، يخلقه الإنسان كي يتفاهم مع من يعيشون حوله، وهو متأثر بظروف تاريخية واجتماعية حكمت بوجوده وعناصره وتطوّره. لماذا لا تستطيع أنت نطق حرف "الطاء"؟ ولماذا لا يستطيع العربي نطق حرف "ﭫ"؟ هناك ظروف وتداعيات اجتماعية وغيرها كوّنت هذه اللغات. وعندما تأتي الترجمة، فإنها وسيلتي كي أفهمك. ولكن هل أفهمك بلغتك؟ إنما أفهمك بلغتي. وإذا اتفقنا على أن اللغة هي الطريقة التي أجمعتُ أنا ومن يتحدثون لغتي على التعبير بها عما أريد، فلا يوجد ما يلزمني بالطريقة التي أجمعتَ عليها أنت ومن يتحدثون لغتك على التعبير بها عما تريد. فإن اختلفت طريقتي عن طريقتك، لا يعني ذلك بأنني خائن.
- قد تستطيع المراوغة بهذه الحجة في الترجمات العلمية، حيث المعنى والمعلومة هما الأهم. ولكن ماذا عن الترجمة الأدبية؟ النص الأدبي له تكوينه الخاص الذي يميزه عن غيره بفضل الطريقة التي يستخدمها الكاتب. طريقته هي التي تجعل منه أديبا مميزا. هل ستنتج النص بطريقتك لا طريقة الكاتب؟ لا يمكنك أن تكتب "تاجر البندقية" بطريقتك ثم تنسبها زورًا وبهتانا إلى شكسبير. تريد أن تخلق شكسبيرا عربيا ثم تقول أنه شكسبيرنا؟ من البديهي أن على المترجم أن يلتزم بأسلوب شكسبير وتعابيره حتى يترجمه بشكل صحيح، وحتى يترجم شكسبير –لا تولستوي أو أجاثا كريستي. ألا ترى أنك تتعرف أحيانا على كاتبٍ ما من أسلوبه دون أن تقرأ اسمه على الغلاف؟ أين هذا الأسلوب في الترجمة؟ أتريد أن تقنعني بأنه يمكن أن أقرأ ترجمة لعمل كاتبٍ ما وأتعرف عليه من "أسلوبه"؟

بدا لي أن هذا المانشستري مجادل لدود ويهوى التنظير، ولا ينفع معه إلا الهجوم بطريقته.

- إن العمل الأدبي يا صديقي عبارة عن فعلٍ تواصلي فيه مرسل وهو الكاتب، ورسالة وهي النص ومستقبل وهو القارئ. وصيغة الرسالة تحكمها العلاقة بين المرسل والمستقبل لغويا واجتماعيا وثقافيا. وأنا عندما أترجم فإنني آخذ الرسالة من المرسل الأصلي وأعيد كتابتها لأوصلها إلى مستقبلين جدد لم يتوجه إليهم المرسل أصلا، فالعلاقة بينه وبينهم معدومة. والرسالة نفسها تحتوي على تعقيد يمزج بين البلاغة والتصوير والإيقاع الموسيقي، والسحر الأدبي...
- آهاه..ها أنت تقولها بنفسك "السحر الأدبي". إنه سحرٌ خاص يخلقه الكاتب بأسلوبه وفكره وخياله، فكيف للترجمة أن تقدم لي هذا السحر نفسه بأسلوب وفكر وخيال ليسوا للكاتب وإنما للمترجم ؟ يجب أن نعترف بعجز الترجمة هنا. فالمترجم مهما كان بارعا لا يستطيع أن يتقمص الكاتب ويستخدم فكره وخياله وأسلوبه. لا تقل لي أنك تستطيع نقل سحر شكسبير إلى لغتك. أتستطيع أن تبثّ فيّ عبر ترجمتك نفس السحر الذي تملّكني وأنا أقرأ "هاملت" بالإنجليزية؟ هل تستطيع؟

ختم جملته بابتسامة انتصار، ورشف من كوب قهوته رشفة طويلة وتنهّد بارتياح.

- جميلٌ أنك تحدثت عن السحر. يا صديقي، هذه الكلمة التي فرحتَ بها هي نفسها التي تثبت وجهة نظري.

قد قلتها كي أخفف على نفسي هول الهجوم الكاسح الذي شنّه علي ، ولكن يبدو أنها كانت رمية من غير رامٍ، فقد أربكته وسمحت لي بفرصة للتفكير. عدّل من جلسته، ونظر إليّ بارتياب، فتابعت:
- السحر والروعة اللذان أحسستَ بهما في قراءة "هاملت" بالإنجليزية لا يكمنان في المعاني أو الأحداث أو الأفكار أو الأسلوب الأدبي فقط، بل هناك شيء ما يغلفها جميعا ويقولبها ولا تستقيم دونه. اللغة نفسها. كيف كان لشكسبير أن يبثّ فيك سحره لولا لغته بتركيبها ونظامها ودلالاتها وأصواتها؟ وكيف تريد هذا السحر نفسه بعدما فرّغته من تلك اللغة؟

أظنني أبليتُ حسنا، ولكنه ضحك تلك الضحكة الإنجليزية "الباردة" وقال:
- هذا بالضبط ما أريد قوله، وأعتقد أننا وصلنا لنهاية النقاش بعد اعترافك. اسمعني، الترجمة لا يمكن أن تنقل ذلك السحر بسبب تفريغ النص من لغته على حد قولك، فهناك فقدان حتمي لا مفرّ منه. وهذا الفقدان يساوي عدم اكتمال المهمة، يساوي عدم الإتقان، وهي الخيانة التي أتحدث عنها.

استلّ كوب قهوته كي يفرغه في جوفه علامة النصر، وتأكيدًا على أنه لم يبقَ لديّ ما أقوله. ولكن لن أستسلم.

- الخيانة يا عزيزي تكون في عدم الوفاء بعهدٍ ممكن التحقيق متفق عليه أو مُتوقع الحدوث، فيجب أن يكون هناك عهد وأن يكون قابلا للتحقيق. أما أن أتهم سيارتي بالخيانة لأنها لا تطير فوق المطب، فهذا عبط . وأما أن تنقل لك الترجمة "سحر" اللغة الأخرى فهو أمر لا يتوقعه أحد ولا تزعمه هي لنفسها.

- سأقبل منك هذا الرد. أنت تقول أن نقل "السحر" من لغةٍ إلى أخرى غير ممكن. طيب، لننسَ النص الاصلي ولغته. نظريًا ذلك لا يمنع من إنتاج "سحر" في اللغة المترجَم إليها يوازي ذلك السحر في النص الأصلي. الترجمة الأدبية موجودة منذ مئات السنين، ولكننا لم نشهد غير أمثلة تُعد على أصابع اليد كانت فيها الترجمة بمستوى سحر النص الأصلي. خذ أي نصّين أحدهما مترجم، وسترى أن النص الأصلي يؤثر فيك أكثر. سترى أن سحر النص الأصلي أوقع في نفسك. فهل كل المترجمين أضعف "سحرًا" من المؤلفين؟ حتى المترجمين الأدباء عندما يترجمون ينتجون سحرًا أضعف.

- ومن قال أن للسحر الأدبي معيارا ثابتا واحدا في كل اللغات والثقافات؟ من الجهالة أن تفترض مثلا كون هوميروس أشعر من الخيّام، أو أن نجيب محفوظ أقل إبداعًا في كتابة الرواية من ماركيز. أنت تفترض أن السحر الأدبي هو نفسه في الإنجليزية وفي العربية وفي الفرنسية. ما يشجيك لا يشجيني، وما يسحرك قد لا يستهويني. المسألة مسألة اختلاف لا نقص، وليس الاختلاف كالنقص. أما قراءتك لبعض الترجمات ركيكة اللغة والتعبير، فهذه مسألة أخرى يُنتقد فيها المترجمون لا الترجمة كمفهوم.

صمت قليلاً صديقي المانشستري ولكنه زمّ شفتيه ورفع حاجبيه دلالة على التفكير.

- سؤال أخير..لماذا إذن تجهدون أنفسكم بالترجمة الأدبية وتلصقون الترجمة باسم المؤلف طالما تعلمون أن الترجمة لا تنقل السحر الأصلي؟ وأعتقد أن ترجمة العمل الأدبي في وقت قراءته قد تؤثر في المترجم وتقلل من إبداعه اللغوي. لماذا لا يقرأ المترجم النص الأصلي ثم يكتب بلغته نصًا جديدًا مقتبسا من النص الأصلي، بدلا من أن يترجم على هواه ثم يلصق اسم المؤلف على الترجمة، والمؤلف بريء منها؟
- يا صديقي..عندما يترجم أحدهم شكسبير، لا أنتظر منه أن يكون شكسبير، بل أن يعرّفني به وبما كتب. ولو أردتُ معرفة شكسبير مباشرة لقرأت له بلغته. ترجمة الأدب موجودة لكي نستمتع بها، ونتعلم منها، ونعرف كيف فكّر غيرنا..لا لكي يكون المترجمون نسخة من المؤلفين. ولقد ساعدتني كثيرًا يا صديقي..بالفعل ما يفعله المترجم (أو يجدر به) هو كتابة جديدة للنص الأصلي. ألم أقل لك أنه يعيد كتابة الرسالة إلى مستقبلين جدد؟

هنا...رشفتُ أنا رشفة طويلة من الشاي المنعنع..وحاول أن يرشف من كوب قهوته، فلم يجد شيئا.

مانشستر-2005

الأربعاء، 5 يناير 2005

رواية عمانية بقلم أمريكي




قبل فترةٍ وقعت بين يديّ رواية بعنوان (العاصفة الرملية) للروائي الأمريكي (جيمس رولينز)، والذي لا أحسب أن أيًا من رواياته قد تُرجمت إلى العربية بعد. ولا يعود السبب في ذلك إلى قلة إنتاجه، أولا لأن قلة الإنتاج أو كثرته لا تكفل للكاتب شهرةً أو تمنعها، والدليل الشهرة العالمية التي يتمتع بها حاليا (دان براون) مؤلف "شيفرة دافنشي" رغم أن رواياته لا تتعدى الأربع روايات. ربما يعود السبب إلى عدم انتشار شعبية الخيال العلمي/البوليسي في الوطن العربي بعد، وربما لعدم شهرة الكاتب خارج أمريكا أصلا.

إذن، ما الذي دفعني إلى إضاعة وقتي في قراءة رواية جديدة لم يكتب عنها أحد، من أربعمائة وست وأربعين صفحة، لكاتبٍ لا أعرفه؟ دفعني إليها شيءٌ واحد فقط، وهو أن الرواية عمانية، لا نسبة إلى كاتبها، بل إلى مكان أحداثها وشخصياتها، وكون الشخصية الرئيسية في القصة عمانية. قتلني الفضول. ماذا قد يريد كاتبٌ أمريكي من الأراضي العمانية حتى يجعل أحداث روايته فيها؟ وماذا قد تفعل شخصية عمانية في رواية أمريكية؟ أهي محاولة غربية لتشويه صورة العرب والمسلمين- كما سيحب أصحاب نظرية المؤامرة الغربية تفسيرها- في قالبٍ أدبي؟ وازداد فضولي عندما علمتُ بأن الرواية تنتمي إلى جنس الخيال العلمي، فهل سأشاهد في الرواية أطباقا طائرة "تنحشر" في "سِكك" سوق الظلام؟ أم مخلوقات فضائية قررت الاستيلاء على مخزون الحلوى العمانية؟ وبدأتُ أقرأ.

تدور أحداث الرواية في كلٍ من أمريكا، ولندن، ومسقط، وصلالة، وشصر. وتبدأ في لندن حيث يُسمع دويّ انفجار قوي في متحف لندن دمّر مجموعة الآثار الشرقية القديمة التي كانت تُشرف عليها الدكتورة العمانية (صفية آل ماس)، والتي أنفقت عليها الليدي (كارا) أموالا طائلة. ومع مجرى التحقيقات يتبيّن أن هناك سرّا غامضًا وراء ذلك الانفجار، يمتدّ إلى عُمان، وبالتحديد أوبار. أحيا هذا الحدث الكبير في نفس الليدي (كارا) رغبة شخصية قديمة في اكتشاف سبب اختفاء أبيها في صحراء عمان، فتأخذ معها الدكتورة (صفية) والدليل الرحالة المستكشف (أوماها) إلى عُمان سعيًا وراء اكتشاف السر. ويرافق أولئك أيضًا عميلان من الحكومة الأمريكية. ورغم أن كلا منهم له دوافعه الخاصة وسرّه الذي يبحث عنه، إلا أنهم يتجهون جميعًا دون إدراكٍ منهم إلى اكتشاف أسرارٍ علمية وتاريخية تمتد إلى التاريخ الشرقي البعيد امتدادًا يصل إلى سيدنا سليمان عليه السلام. ويتطلب منهم اكتشاف هذه الأسرار حل بعض الألغاز في أماكن عديدة منها ضريح النبي أيوب وضريح النبي عمران. وتذكرني طريقة حل الألغاز في الضريحين بأسلوب (دان بروان) في رواية (شيفرة دافينشي) أو (ملائكة وشياطين). تتبدى أسرارٌ كثيرة جدًا ومفارقات وغرائب مع سير الأحداث، إلا أن ما يحدث على أعتاب بوابة أوبار على مشارف نهاية الرواية هو الحدث الجلل الذي –بلا شك- سيوقف شعر القارئ ذهولا أو يسقطه على أكتافه جنونا. ولا أريد من هذا المقال أن أفسد على قارئ الرواية متعته واكتشافه، فأكتفي بما ذكرت.

يمزج المؤلف (جيمس رولينز) في روايته هذه بين أسلوب الخيال العلمي وأسلوب الخيال التاريخي-جزئيا- وأسلوب المغامرة وأسلوب الرواية البوليسية. ويبدو أنه قد أعدّ بحثا تاريخيا وجغرافيا لا بأس به-رغم وجود بعض الثغرات- كي يتقن حبكة الرواية. ولستُ واثقا ما إذا كان قد زار السلطنة قبل كتابة روايته، إلا أنه يقدم وصفًا يكاد يكون دقيقًا لمواقع عديدة في عمان مثل كورنيش مطرح وسفينة شباب عمان وصلالة وشصر وقبري النبي عمران والنبي أيوب وبوابة أوبار المفقودة، إضافة إلى المعلومات الثقافية. ولعلّ المختصين في الآثار والجغرافيا والتاريخ أكفأ في الحكم على وصف المؤلف، إلا أن هناك أشياء لا تحتاج إلى مختصين للحكم على عدم دقتها. هناك مثلا مشهد العشاء الذي يتناول فيه الضيوف "الشواء" و"المكبوس" على حد وصف المؤلف، مع القهوة العمانية!

أول فكرة طرأت ببالي بعد أو أثناء قراءة الرواية هي لماذا لا نكتب نحن عن آثارنا وأساطيرنا في قصصنا ورواياتنا؟ لماذا يستغل أسطورة أوبار كاتبٌ أمريكي تفصله عن أوبار محيطات وصحاري وإرث تاريخي طويل، بينما نحنُ القابعون هنا لم نلتفت إليها؟ كيف فكّر هذا المؤلف-الطبيب البيطري- بتلك الحبكة الروائية عن أوبار ولم يفكر بها أحدنا؟ لماذا يخلّد غيرنا تراثنا؟

لقد قرأتُ الرواية عن فضولٍ ومسؤولية، وكلي أسفٌ أن آلاف العمانيين ممن لا يقرأون الإنجليزية عاجزون عن قراءتها. كم أتمنى أن تُترجم هذه الرواية إلى العربية ويقرأها كل عماني، لا لروعة الرواية أو أسلوب الكاتب الممتع-وهو ليس كذلك- بل لأنها تتحدث عن أسطورة وتاريخ وآثار عمانية. قد يجد القارئ صعوبة في مواصلة قراءة الرواية لأن الأحداث متشابكة ومشتتة، إلا أن الأسرار التي تتكشف بعد ذلك تزيد القارئ متعة ولهفة. هذا وقد يتململ القارئ من الكثير من شطحات الخيال، ولكنها أولا وأخيرا..رواية خيال علمي. باختصار، الرواية رائعة في جرأة فكرتها وخيال المؤلف وثقافته، وربما تحتاج إلى بعض اللمسات التي تجعلها مشوّقة أكثر، خصوصا في بدايتها.
أقدّم بين أيدي القارئ ترجمةً لمقطعٍ من الرواية لا يسمن ولا يغني من فضول، ولكن علّه يشوّق القارئ.

من رواية "العاصفة الرملية"

[الدكتورة صفية وكاساندرا في ضريح النبي أيوب]

سألت (كاساندرا): "ماذا تفعلين؟"
أجابت (صفية): "أعمل"، بطريقة أظهرت مقتها، فلم تعد تقوى الحرص على عدم إغضاب آسرتها، ثم فتحت الباب.
وتحت الباب كانت حفرة ضحلة مخبوءة عمقها ستة عشر إنشا، تم حفرها باستخدام حجر. وفي قاعها كان هناك أثران مطبوعان متحجران، أحدهما يمثل قدما بشرية كبيرة، والآخر يمثل حافر حصان.
سألت (كاساندرا): "ما هذا؟"
فأجابت (صفية): "لو عدتِ إلى القصة التي أخبرتك بها عن النبي أيوب، لتذكرتِ أن الله ابتلاه بمرضٍ شديد إلى أن أمره أن يضرب بقدمه الأرض فتخرج منها عينٌ شافية" وأشارت إلى أثر القدم في الحفرة الحجرية. "يُفترض أن هذا هو أثر قدم النبي أيوب حين ضرب بها الأرض". ثم أشارت إلى الفتحة في الأرضية "ومن هنا تفجر الماء الذي ينبع من مصدرٍ في قاع التلة".
فسأل (كين): "تعنين أن الماء صعد من أسفل التلة إلى أعلاها؟!"
- وكيف تكون معجزة إن لم يكن ذلك؟!
حدّقت (كاساندرا) في الحفرة ثم سألت: "وما دخل أثر حافر الحصان بالمعجزة؟"
أطرقت (صفية) وعقدت حاجبيها وهي تحدّق في أثر الحافر. كان الأثر متحجرًا أيضًا. "لا توجد قصة مرتبطة بهذا الأثر".
ولكن شيئًا ما كان يعتمل في ذاكرتها. آثارٌ متحجرة لحصانٍ ورجل. لماذا كانت هذه العبارة تبدو مألوفة؟
في هذه المنطقة من أولها لآخرها كان هناك ما لا يحصى عدده من القصص عن أناس أو وحوش تحولوا إلى أحجار. وبعض القصص كانت متربطة بأوبار نفسها. وأخذت تعصر ذاكرتها. هناك قصتان موجودتان في (ألف ليلة وليلة): "المدينة المتحجرة" و "مدينة النحاس"، أشارتا إلى اكتشاف مدينة صحراوية مفقودة، مدينة يكمن فيها شرّ خطير حتى أن حلت بها لعنة وجعلت سكانها يتجمدون في أماكنهم جزاء على ذنوبهم، وكانوا إما يتحولون إلى حجر أو نحاس، حسب الرواية. كانت تلك إشارة واضحة إلى أوبار. ولكن في القصة الثانية، لم يصل الباحثون عن الكنز إلى المدينة المدانة بالصدفة، بل كانت هناك علامات دلتهم إلى بواباتها.
وتذكرت (صفية) أهم علامة من هذه القصة: تمثال النحاس. وكان التمثال لفارس يمتطي حصانه ويرفع عاليا رمحا له رأس مغروز فيه. وعلى ذلك الرأس كان هناك نقش مكتوب، وكانت (صفية) تحفظ ما جاء في النقش عن ظهر قلب بعد أن قامت ببحث طويل عن الأساطير العربية من أجل (كارا). وقد جاء في النقش: أنتَ يا من قدمتَ إليّ، إن كنت لا تعرف الطريق إلى مدينة النحاس، فافرك يد الفارس، وسوف يستدير ثم يقف، وحيث يقف ابدأ مسيرك في الاتجاه الذي يدلك عليه، وسوف يقودك ذلك إلى مدينة النحاس.[يبدو أن هذه الرواية محرّفة نتيجة للترجمة الأجنبية، فحكاية مدينة النحاس في "ألف ليلة وليلة" لا تذكر رمحا لفارس ولا تذكر هذه العبارة، بل تشير إلى نقش على التمثال يأمر بفرك المسمار في سرة الفارس اثنتي عشرة فركة فينفتح الباب، المترجم].
يقودك إلى أوبار!
تأملت (صفية) في العبارة. تمثال نحاسي يستدير باللمس حتى يشير إلى العلامة التالية. تذكرت القلب الحجري، وكيف يصفّ نفسه مثل إبرة بوصلة فوق الهيكل الرخامي. كان التشابه غريبًا. والآن هذا! نظرت في الحفرة. رجل وحصان. متحجران.
لاحظت (صفية) كيف أن أثر القدم وأثر الحافر يشيران إلى نفس الاتجاه، وكأن الرجل كان يقوم ب"تمشية" مطيته. هل هذه هي العلامة التالية؟ قطبت جبينها عندما أحست بأن هذا الجواب شديد الوضوح شديد السهولة أكثر مما يلزم. أخفضت الغطاء ووقفت تفكر.
وقفت (كاساندرا) بجانبها وقالت: "في رأسك شيء ما".
هزّت (صفية) رأسها وهي حائرة في هذا اللغز. مشت رويدًا في اتجاه الأثرين، لتصل إلى المكان الذي اتجه إليه النبي مع حصانه. وانتهى بها المطاف إلى مدخل الموقع الأثري الصغير الواقع خلف الضريح، يفصله عن المبنى الأجدد زقاق ضيق. كان الحطام بلا هيئة واضحة يمثل أربعة جدران متقوضة بلا سقف، في وسطها مساحة من عشر أقدام. بدت وكأنها جزء من منزل أكبر حجمًا تهدّم منذ زمنٍ بعيد. تخطّت العتبة ودلفت إلى الداخل.
وبينما كان (كين) يحرس الباب، تبعتها (كاساندرا) إلى الداخل، ثم تساءلت:"ما هذا المكان؟".
"مصلى قديم". قالتها (صفية) وهي تنظر إلى السماء التي يقل نورها مع غروب الشمس، ثم تدوس على سجادة على الأرض.
اتجهت (صفية) نحو تجويفين في جدارين تم إنشاؤهما ليستدل المصلون على الاتجاه الذي يصلون فيه. وأدركت أن التجويف الأجدد منهما يشير إلى مكة، فاتجهت إلى الآخر الأقدم منه.
وأخذت تتمتم: "هنا صلى النبي أيوب، دومًا باتجاه القدس". باتجاه الغرب شمالا.