الأربعاء، 24 فبراير 2010

ملحمة البحث عن الذات:عرض لرواية "يوم غائم في البر الغربي"


كيف تملك ألاّ تستمتع بقصةٍ تُشبع فيك فضولا عن الماضي البعيد، وشخوصه، ومفردات حياته؟ إن أحد الأسباب التي تجعلنا نتعلق بالقصص القرآنية ونتأثر بها هو أنها لا تكتفي بسرد الأحداث، وإنما تبعث الحياة في الشخصيات التاريخية لتجعلها تتحدث أمامك، وتفكر، وتتفاعل فيما بينها. فرقٌ كبيرٌ بين أن تقرأ سيرة شخصٍ ما، وأن تشاهده حيًا ينبض بين السطور يعبّر عن نفسه بنفسه. وإذا كان الأمر كذلك فليس لك إلا أن تستمع جدًا برواية "يوم غائم في البر الغربي" الصادرة عن دار الشروق عام 2009 (وفي طبعة ثانية عام 2010) في 570 صفحة، للروائي المصري (محمد المنسي قنديل). أما المؤلف فهو طبيبٌ سابق وكاتب متفرغ حصل على عدة جوائز أدبية كانت آخرها جائزة ساويرس للآداب عام 2006، له العديد من المجاميع القصصية والسيناريوهات السينمائية، إضافة إلى روايتين وعددٍ من الكتب في أدب الرحلات وأدب الأطفال.

أما الرواية التي نتحدث عنها اليوم فجاءت في 11 فصلا، كل فصلٍ مخصص لمكانٍ من الأمكنة التي تدور فيها الأحداث، فتبدأ الرواية في (أسيوط) وتمرّ بـ(المنيا) و (مقابر بني حسن) و(السيدة زينب) و (نجع بني خلف) وغيرها إلى أن تنتهي في (وادي طيبة). سيلاحظ القارئ أن الفصول طويلة جدًا، ولكنه قرار له أسبابه في رواية تحتفي بالمكان وتركز عليه، فيكون محور الفصول هو المكان لا الشخصية أو الحدث. أما السرد فينبعث في ثلاثة خطوط، أولها مع البطلة الرئيسة (عائشة)، ثم يظهر بعد مائة صفحة الفنان والمنقّب الأثري (كارتر) حين تتقاطع حياته مع عائشة، ثم يختفي لأكثر من مائتي صفحة ويعود بعدها ليجتمع بعائشة مرة أخرى. وأما الخيط الثالث فهو الذي يشير بقوةٍ إلى إبداع الرواية، وهو خيط شخصية فرعونية تأتي في أواخر الرواية عندما تتقاطع حياة كارتر معها. وهكذا فالمؤلف يحكي لنا قصة في بدايات القرن العشرين، ولكنه في لحظةٍ ما تستدعيها الرواية يُعيدنا آلاف السنين إلى الحضارة الفرعونية. هذا وقد اختار المؤلف أن ينوّع في طريقة السرد، حيث استخدم صوت الضمير الغائب العليم مع عائشة والشخصية الفرعونية، وضمير المتكلم مع كارتر. ويبدو أن هذا الخيار لم يكن اعتباطيًا أو لمجرد التنويع، فشخصية كارتر احتاجت إلى تقنيةٍ تُخرج أفكارها الداخلية ونزقها وتمردها ومُشاهداتها المباشرة في المواقع الأثرية.

يتجلى إبداع هذه الرواية في بناء قصتها وقدرة المؤلف على تسليط الضوء على أماكن مهملة في التاريخ. تبدأ الرواية بمشهدٍ درامي قوي يُفجّر الكثير من الأسئلة ويفتح أبوابًا من التشويق تجعلك تقلّب الصفحات دون ضجر. وهكذا نتعرف إلى البطلة عائشة، الفتاة المصرية التي تسوقها أقدارها إلى عوالم مختلفة في بدايات القرن العشرين مع الوجود البريطاني في مصر وحركات الثوريين ونضالهم ضد الذلّ والمهانة. ونتعرف كذلك إلى كارتر الفنان والمنقب الأثري في زمن الحملات التنقيبية عن الآثار الفرعونية ونقوشها وكنوزها وأسرارها، وهو سياق لم يأخذ ما يستحقه من حيزٍ في الرواية المصرية. وربما ما يجمع بين عائشة وكارتر هو رحلة البحث عن تحقيق الذات، وبينما عائشة تبدو كأنها تبحث عن شيء لا تعرفه، نجد كارتر يبدأ مثلها ثم ما يلبث أن يعرف ما يبحث عنه ولكنه يعجز عن الوصول إليه. وعندما يتلاقى طريقاهما يصلان إلى مكانٍ جغرافي يتقاطعان فيه مع شخصية فرعونية هي الأخرى كانت تبحث عن تحقيق ذاتها، فنتعرف إليها وعلى رحلتها قبل أن نعود إلى حاضر عائشة وكارتر.

إن ما فعله المؤلف في هذه الرواية هو زرع شخصية خيالية (عائشة) في عالمٍ تاريخي حقيقي، بين شخصياتٍ يعرفها الجميع، ولكننا قلما نجد الفرصة لنشاهدها من كثب. فالبطل الثاني كارتر ليس إلا المنقب الأثري البريطاني الشهير (هوارد كارتر Howard Carter) صاحب الاكتشاف العظيم في الآثار الفرعونية، والبطل الثالث ليس إلا شخصية فرعونية مثيرة معروفة لنا أيضًا. وإلى جانب هؤلاء نجد شخصيات ثانوية (في الرواية) كثيرة نعرفها بأسمائها وربما ببعضٍ من تاريخها، كالزعيم الثوري (مصطفى كامل)، والنحّات المصري الأشهر (محمود مختار)، والمندوب السامي البريطاني (اللورد كرومر Lord Cromer)، إضافة إلى منقبين أثريين معروفين وشخصيات فرعونية بارزة مثل (نفرتيتي) و (توت عنخ آمون). ومما يُحسب للمؤلف قدرته على تصوير الشخصيات بصورةٍ تتوافق مع ما عُرف عنها، فنجد اللورد كرومر مثلا بغروره وعنجهيته وتسلطه ونظرته العنصرية للمصريين، وفي المقابل نجد مصطفى كامل الثوري المتحمس القائد المُلهِم. ومن الواضح جدًا أن المؤلف قد بحث طويلا في تاريخ مصر في تلك الفترة وسِيَر شخصياتها، وفي أخبار التنقيب الأثري وأبرز أسمائه، وفي التاريخ الفرعوني وقصصه، فنجد مثلا حادثة دنشواي الشهيرة، ومشهد خروج اللورد كرومر، والمظاهرة التي وقع فيها الحكمدار الإنجليزي من فوق حصانه. ومن العناصر التاريخية التي استخدمها المؤلف على نحوٍ جميل الجملة التي يقولها كارتر في المشهد الأخير، حيث إنها هي نفسها الجملة الشهيرة التي نُقلت عنه كثيرًا، وفي المقام نفسه. ونحن إذ نقول ذلك يجب أن ننوّه إلى أن المؤلف رغم ذلك لم يقدم تقريرًا تاريخيًا، بل وظّف التاريخ لينسج قصة جديدة منسجمة معه.

ومما يجب أن يُحسب للمؤلف أيضًا قدرته الفائقة على التصوير، فالقارئ لا يملك إلا أن يشاهد ما يصفه المؤلف بتفاصيله الدقيقة، بلونه وشكله ورائحته وحتى ملمسه، وهذا في الواقع ليس بغريب على كاتب سيناريو. ولأنّ الرواية كما ذكرنا آنفًا تحتفي بالمكان، فقد كان لزامًا أن يأتينا الوصف دقيقًا لتفاصيل المكان برمله وحجره ومبانيه والروائح المنبعثة منه. وبالإضافة إلى وصف الأماكن والشخوص، هناك مشاهد رسمها المؤلف مفصّلة بحرفية عالية، بحيث يجد القارئ نفسه يتساءل "من أين له أن يعرف كل هذا؟". فمثلا يقدم لك المؤلف وصفًا تفصيليا لعملية وشم، وعملية اغتصاب، وعملية إجهاض، وينجح تمامًا في أن يشعرك بالألم والتقزز والإشفاق، فلا ينتهي المشهد إلا بأنفاسك المتلاحقة.

أما لغة الرواية فجاءت خفيفة جميلة، متوازنة بين الحوار والسرد. واختار المؤلف أن يلتزم بالعربية الفصحى وتجنب العامية، وفي رأيي هذا قرار صائب، حيث إن الأماكن في هذه الرواية متغيرة وبالتالي هناك عدة لهجات، إضافة إلى أن هناك شخصيات كثيرة ليست العربية لغتها أصلا، وهكذا فإن الفصحى هنا تكون وعاء شاملا للجميع. ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الحوارات التي جاءت على لسان الأجانب-رغم فصاحتها- تبدو وكأنها مُترجمة عن أصلٍ إنجليزي: "يا للمسيح!...ماذا تظن أنك تفعل؟" (ص121)، "من أنتِ على أي حال؟" (ص177)، "كفى..الأمور سيئة بما يكفي" (ص200). من ناحية أخرى جاءت الحوارات مُناسبة لشخصياتها، فلغة بائعة الهوى (نبوية المستحية) بلزمتها "يا قلبي" لها مِزاجٌ مختلف عن لغة عائشة أو لغة الصحفي (عبدالرحمن الرافعي) مثلا.

هناك سؤالان هامان يستمران لدى القارئ أثناء قراءة الرواية، أما السؤال الأول فهو: إلام ترمز عائشة؟ هل هي مصر في كفاحها وفي أصالتها وفي تعرضها للإذلال والاستغلال؟ ألذلك كان لعائشة اسم إسلامي، وملامح فرعونية، ووشم مسيحي يبقى معها إلى الأبد؟ ربما. أما السؤال الثاني فهو: ما دور الذئاب في الرواية؟ لقد استخدم المؤلف الذئاب بطريقةٍ رائعة، فالذئاب تتبع الشخصيات وتظهر لهم في مواقف معينة، تنذرهم، وترعبهم، وتحميهم، وتوجههم وتنتقم لهم. ومع القراءة سيتبين للقارئ أن هناك رابطًا قويًا بين الذئاب وبين أبطال الرواية، قد يكون خياليًا جدًا، ولكنه ليس فجًا، بل جاء بطريقةٍ جميلة صبغت الرواية بطابع غرائبي بديع.

ومن الطريف أن يبني المؤلف جزءًا من أحداث الرواية على أنّ (توت عنخ آمون) هو طفل وجده (أخناتون) واتخذه ولدًا ليخلفه في حكمه، بينما يظهر لنا هذا الشهر فقط-فبراير 2010- الدكتور (زاهي حوّاس) الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار في مصر ويُعلن للعالم أن تحليل الحمض النووي أثبت بأن توت عنخ آمون هو ابن أخناتون بلا شك.
هي رواية شديدة الإمتاع والإبداع، مكتوبة بحرفية عالية، تأخذنا في رحلة طويلة لنشهد على صراع مصر مع الاحتلال، وصراعها مع من يسرقون آثارها، وصراعها لتحقيق ذاتها. لقد استطاع محمد المنسي قنديل ببحثه وخياله أن ينتج رواية تستحق بجدارة أن تكون على قائمة جائزة البوكر العربية. وفي رأيي الشخصي بعد قراءة الروايات الست المتنافسة واستعراضها على مدى الأسابيع الماضية، أتوقع أن تنحصر المنافسة النهائية بين رواية "أميركا" لربيع جابر ورواية "يوم غائم في البر الغربي"، وكلا الروايتان تستحقان الفوز، والاحترام، والتقدير.

الأربعاء، 10 فبراير 2010

عالم روائي بديع وملحمة بطلتها امرأة: عرض لرواية "أميركا"



ربما أكثر ما يحترمه القارئ في أي روائي هو أنه تعب وبحث كثيرًا حتى يُخرج العالم الروائي الذي صنعه وتعمّق فيه، ولا يكتفي بـ"سوالف" وحكايات يجيد حياكتها. وهكذا لا يسعك إلا أن تشعر باحترامٍ وتقديرٍ كبيرين بعد قراءة رواية "أميركا" الصادرة عن المركز الثقافي العربي ودار الآداب عام 2009 في 430 صفحة.

المؤلف (ربيع جابر) روائي شاب غزير الإنتاج، لا يكاد يمر عليه عام دون أن يصدر رواية أو اثنتين أحيانًا، فمنذ روايته الأولى "سيد العتمة" عام 1992 صدرت له حتى الآن 16 رواية. ويبدو أن ربيع جابر يتبع في كتابته نوعًا خاصًا من الرواية التاريخية، بحيث يقدّم لك التاريخ بشكلٍ شائقٍ وبسيط، لكنه لا يسمح لهذا التاريخ أن يُحاصر خياله وإبداعه، بل يوظفه لإشعال مخيلته.

اختار ربيع جابر أن يقسّم الرواية إلى فصولٍ قصيرة لا يتعدى طول كل منها 3 أو 4 صفحات، بمجموع 126 فصلا موزعة على أربعة أجزاء. وإلى جانب ترقيم الفصول يضع المؤلف عنوانًا لكل فصل (باستثناء الفصل الأخير من كل جزء) ليمهّد للقارئ ويوجّه عنايته إلى تركيز الفصل على شخصيةٍ أو حدثٍ أو مكان. وربما أراد المؤلف من هذه الفصول القصيرة أن يُريح القارئ في روايةٍ طويلةٍ مليئةٍ بالشخصيات والحكايات، إضافة إلى سهولة الرجوع إلى فصلٍ من الفصول عندما يُحال إليه لاحقًا. ونجد أن هناك ثلاثة خطوطٍ سردية رئيسة في الرواية، خطّ البطلة (مرتا حداد) ويبدأ من الفصل الأول مستمرًا إلى النهاية، وخط (علي جابر) الذي يبدأ في الفصل الثاني تمهيدًا ثم نراه في الفصل السادس عشر، ولا يعود بعد ذلك إلا في الجزء الثاني الفصل 54 حيث تستمر قصته وتقاطعه مع البطلة. أما الخيط الثالث فهو خط (خليل حداد) الذي يبدأ في الفصول الأولى ثم يختفي ويعود لاحقًا.

تحكي الرواية قصة مرتا حدّاد الشابة السورية من قرية "بتاتر" التي تُسافر إلى أميركا بحثًا عن زوجها الذي انقطعت رسائله وأخباره. تصل إلى هناك وحيدة ليس معها إلا كيس به زوّادة بسيطة وقليل من المال، تتجه إلى التاجر الأميركي الذي يعمل زوجها عنده. الجميع يعرف زوجها (خليل) أو (جو) كما يطلقون عليه هناك، ولكن أخباره انقطعت منذ فترة ولا أحد يعرف مكانه أو ما حدث له. تعمل مرتا لدى التاجر الأميركي في معمل خياطة، منتظرة أن تسمع أخبارًا عن زوجها. تمرّ الأيام وتكتشف مرتا أخبارًا سيئة عنه، فتقرر الابتعاد عنه والمضيّ في حياتها، لكنها لا تعود إلى بلادها. تعمل بائعة متجولة "كشّاشة"، ثم تعمل في متجر في فيلادلفيا. وتستمر القصة من عام 1913 مرورًا بسنوات الحرب العالمية الأولى، ووباء الإنفلونزا الإسبانية، والكساد الاقتصادي ثم الحرب العالمية الثانية إلى عام 1973 مرّت فيها مرتا وبقية السوريين المهاجرين بأحداث كثيرة، تُكافح وتعمل حتى نراها في نهاية الرواية وقد وصلت إلى الثمانين من العمر بين أولادها وأحفادها في كاليفورنيا ثرية لها أملاك وتجارة. هذه هي القصة باختصار شديد، والحقيقة أن القصة بحد ذاتها (رغم جمالها وإمتاعها) ليست السبب الأهم في روعة الرواية، وإنما العالم الروائي والتقنيات الكتابية التي استُخدمت في الرواية.

يتجلى إبداع الرواية حقًا في التقنيات السردية، فالسارد يبدو أحيانًا وكأنه يعرض علينا فيلمًا سينمائيًا ويعلّق عليه، مثلا حين يقول: "أخاف على مرتا. أراها وحدها على الطريق..." (ص 100) أو حين يُدخل القارئ/المشاهد معه فيقول "لكن ما ستسمعه [مرتا] الآن لا يشبه ما سمعته من قبل. الكلمات سكاكين، يمكن أن تقتل. كل ما نستطيعه الصلاة من أجلها" (ص101). وفي مواضع عدة في الرواية نجد السارد يحدثنا مباشرة فيقول "عزيزي القارئ" وينبهنا إلى أنه لاحقًا سيحدث كذا وكذا. ورغم أن السارد من وجهة نظر النقد الأدبي هو من نوع "السارد العليم"، إلا أنه لا يعرف كل شيء دائمًا، بل يتساءل بين قوسين مع القارئ عن دواخل الشخصيات وعن بعض التصرفات، وفي بعض الأحيان يعترف لنا بنقص المعلومات عن شخصيةٍ أو حادثةٍ ما، مما يُشعرنا بنوعٍ من الواقعية. والمثيرُ أنّ المؤلفَ يلعب مع القارئ لعبة طويلة، فالقارئ يحاول أن يعرف من الذي يسرد الرواية، ولكنه لا يعرف إلا في الجزء الثالث (ص298) أن السارد أحد أفراد العائلة، ولا يعرف حقيقة السارد وشخصيته إلا قرب النهاية (ص353) في مفاجأة مذهلة.

وأما اللعبة الأكبر والأكثر إمتاعًا نجدها في العالم الروائي الذي بناه ربيع جابر، فيظل القارئ يتأرجح حول سؤال ما إذا كانت القصة هذه حقيقية أم لا. الرواية تُعيدنا إلى بدايات القرن العشرين زمن الهجرة السورية (والمقصود سورية الكبرى) إلى "العالم الجديد"، فنشاهد أحوال المهاجرين هناك وفي ماذا يعملون، وكيف نقلوا بلادهم وثقافتهم إلى "الحي السوري" في قلب نيويورك. في الرواية إشارات إلى أشخاصٍ حقيقيين (جبران خليل جبران و هاري ترومان مثلا) ومصادر حقيقية من كتب لميخائيل نعيمة وميخائيل أسعد وربيع جابر مثلا، وحوادث تاريخية حقيقية، ومع ذلك يقول لنا ربيع جابر قبل الرواية "هذه الرواية من نسج الخيال، وأي شبه بين أحداثها وشخوصها وأماكنها مع أشخاص حقيقيين وأحداث وأماكن حقيقية هو محض مصادفة ومجرد عن أي قصد". ولكنك ستظل تسأل نفسك ما إذا كانت الرواية حقيقية أم لا عندما تشاهد المراجع والمصادر المُحال إليها. مثلا، يقول لك الساردُ أن بعض أسماء المهاجرين موجودة في موقع "إيليس آيلاند"، ويُحيل إلى قتالٍ بين السوريين في الحي السوري ويقول لك بأن صحيفة "نيويورك تايمز" كتبت عن ذلك. ولو عُدتَ إلى الموقع المذكور لوجدت اسم (مرتا حداد) و (علي جابر) بالفعل من بين أسماء المهاجرين! ولو راجعت أرشيف الصحيفة المذكورة لوجدتَ الخبر منشورًا بالفعل! يبدو أن ما فعله ربيع جابر هو أنه استخدم عالمًا تاريخيًا حقيقيًا وُجد ذات يوم، وفي داخله صنع عالمه الروائي المُتخيّل، عالم مرتا حداد وباقي الشخوص.

يقودنا ذلك إلى قضية البحث الذي يبدو أن ربيع جابر قد أجراه لكتابة الرواية، فهناك إحالات إلى كتب ورسائل وتقارير وأخبار صحفية تشير إلى بحث المؤلف. ومن اللافت للنظر قدرة المؤلف على تصوير أميركا وولاياتها وأحيائها وعلمه بتاريخها وكأنه قد عاش هناك. هذا ولا نعرف كيف عرف [أو اخترع] ربيع جابر قائمة البضائع التي يبيعها الكشاشون وأسعارها، والموجودة في بيت مرتا حدّاد على حد قول السارد: "يردة شاش أنواتو 50 سنت، يردة شاش سوزني 30 سنت، مخدة أطلس ديفال 35 سنت، صرامي اسلامبولية للنسوان 90 سنت، عوينات مذهبة 25 دولار، نكلس (عقود) 90 سنت..." (ص154). هذا ونجد استخدامًا بديعًا (مؤلمًا في الحقيقة) لعنصرٍ تاريخي يتذكره من يعرف التاريخ الأميركي الحديث، وهو عبارة "أخرجوا موتاكم bring out your dead" والتي يُنادي بها سائقو عربات نقل الموتى في وقت الوباء لدفن الجثث في قبور جماعية تخلصًا منها. وفي رحلة مرتا حداد من نيويورك إلى لويزيانا يصف لنا السارد المشاهد والمحطات التي يقف عندها القطار، وكأن المؤلف قد سار في هذا المشوار فعلا. يمكنني الاستنتاج أن ربيع جابر استخدم معلومات من مصادر كثيرة ليرسم عالمه الروائي، وقد اكتشفتُ أنه في وصفه لـ"الحي السوري Syrian Quarter" في الفصل (29) قام بترجمة بعض فقراتٍ من مقال منشور في جريدة نيويورك تايمز عام 1924 يتحدث عن الحيّ السوري، ولكنه لم يشر إلى المصدر، إلا أنه قال في السرد "انظر أعداد الأسبوع الأول من أيار/مايو في جريدتنا [نيويورك تايمز]، هذه السنة"، كإشارة خفية إلى تغيّر السارد هنا.

وأما اللغة فقد جاءت بمستوى بسيط سلس دون تنميق، إلا أن ربيع جابر وُفق في استخدامها بما يكفي لتصوير المشاهد والمشاعر والأحداث تصويرًا مُلائمًا جذابًا. واختار المؤلف أن يلتزم بالعربية الفصحى في السرد والحوارات، في حين هناك بعض المواضع في الحوار تستخدم بعض الكلمات العامية، ربما لإشعار القارئ بالألفة التي شعرت بها الشخصية عند الحديث بالعامية في الغربة. هذا وقد حاول المؤلف الإبقاء على السياق اللغوي الأميركي من خلال استخدام الإنجليزية في بعض عناوين الفصول وأسماء المناطق، إلى جانب بعض الترجمات الإنجليزية في الهامش لجملٍ جاءت على لسان شخصيةٍ ما بالإنجليزية.

رواية جميلة جدًا في غاية الإمتاع وتتسم بنفسٍ ملحمي يأخذنا في حوالي ستين سنة من أميركا المهاجرين السوريين في القرن العشرين، كاشفة عن الصراع الذي يدور في داخلهم بين الحنين إلى الوطن الأصلي، ومحاولة التصالح مع الوطن الجديد والانسجام معه في حياة تشهد الكفاح والألم والخسارات والنجاحات، في مقابل الجيل الثاني الذي لا يجد له جذورًا قوية في الوطن الأصلي، وتكون أميركا له وطنًا يُدافع عنه ويحتمي به. لقد قدّم لنا ربيع جابر ملحمة كفاح رائعة البطل فيها أنثى لها قوة وصبر وشهامة تساوي ما عند ألفٍ من الرجال. لا شكّ عندي في أن هذا العمل منافسٌ قويٌ جدًا في جائزة البوكر العربية.

الأربعاء، 3 فبراير 2010

الهروب من الأحلام أم منها؟ عرض رواية "وراء الفردوس"



يحدث أن ننصت لشخصٍ يحدّثنا طويلا عن قصةٍ ما، ونستمع له بكل اهتمام دون أن تحتوي القصة على أحداثٍ وأسرارٍ خطيرة مفاجئة لتشويقنا. هنالك شيء ما في ذلك الحديث والوصف يجعلنا مستمتعين منصتين، ومتشوقين. في رواية "وراء الفردوس" الصادرة عن دار العين عام 2009 نكتشف معنى آخر للتشويق والمتعة السردية. مؤلفة الرواية هي (منصورة عزّ الدين)، من الجيل الروائي الجديد في مصر، وقد يعرفها أغلبنا محررة في جريدة "أخبار الأدب". لها العديد من النصوص الأدبية المنشورة في مصر والوطن العربي، وصدرت لها مجموعة قصصية بعنوان "ضوء مهتز" عام 2001، ورواية "متاهة مريم" عام 2004. ورغم أن الراوية التي نحن بصددها هي الثانية للمؤلفة، إلا أنها تكشف عن روائيةٍ تعرف كيف تستفيد من أدوات الرواية.

فمثلا، رغم أن الرواية لا تعتمد على عنصر التشويق في الأحداث، إلا أن اختيار العنوان أدّى هذا الدور بنجاح، فالمؤلفة تريدك فقط أن تبدأ بالقراءة، وهي كفيلة بجعلك تستمر. العنوان مثيرٌ جدًا، وصورة الغلاف لا تقدم معلومات كثيرة، فيا تُرى ما هو الفردوس المقصود في الرواية؟ ستخبرك البطلة عن هذا الفردوس بعد نحو 80 صفحة، ولكن السؤال الذي سيبقى لديك حتى آخر كلمة في الرواية هو ماذا يُمكن أن يكون "وراء" الفردوس؟

استخدمت منصورة عزّ الدين في روايتها تقنية سردية مميزة غير تقليدية، وربما تكون أجمل ما في العمل كله، وهي تقنية "الاسترجاع" أو استعادة الذكريات. وهذه الذكريات لا تأتينا بالضرورة في تتابعٍ زمني كما حدثت، بل بطريقة المشاهد التي تعيد إلى الأذهان ذكريات معينة، مما يذكرنا بالفيلم العالمي الرائع "المليونير المتشرد Slumdog Millionaire" حيث البطل يستعيد مع كل سؤال يُطرح عليه ذكريات من الماضي عرف فيها الجواب. وهكذا تبدأ الرواية بحدثٍ قُبيل النهاية تظهر فيه البطلة (سلمى رشيد)، ثم نعود إلى الماضي من خلال مشاهدٍ من الحاضر. ولقد اتخذت المؤلفة قرارًا ذكيًا بأن تكون هي الساردة، لا سلمى، لأن الرواية تعتمد بشكلٍ كبير على كشف الصراع النفسي الذي تعيشه سلمى. من جهةٍ أخرى، تريد المؤلفة أن تؤكد معرفة سلمى بمعاناتها ورغبتها في الخلاص، فتُورد لنا بعض المذكرات التي كتبتها سلمى.

تبدأ الرواية بمشهد سلمى وهي تحرق صندوقًا كبيرًا مليئًا بالأوراق والذكريات، تريد التخلص منها "كي تبدأ من جديد بروحٍ شابة وذكريات أقل ألمًا" (ص8). منذ وفاة أبيها تعيش صراعًا نفسيًا من ذكرياتها وكوابيسها، تحاول الهروب إلى جنةٍ في عالم آخر، فتغمض عينيها لتعود إلى ذكريات زاهية، أو تغوص في أوهام تختلقها من تغيير الوقائع والشخصيات حين تكتب روايةٍ عن عائلتها، بناءً على نصيحةٍ من طبيبتها النفسية. تعيش سلمى حياة مفككة الآن بعد انفصالها عن زوجها، وتوتر علاقتها بصديقة عمرها (جميلة). ومن ذكريات سلمى نعود إلى قريةٍ ريفية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، نشاهد حياة الفلاحين والصيادين، وتكوّن الطبقة الوسطى بعد إنشاء مصانع الطوب الأحمر. ولكن التركيز في الرواية ينصب على عائلة سلمى الكبيرة وتطوّر الأحداث فيها، وكذلك علاقة سلمى بصديقتها جميلة. كانت سلمى المدللة التي تسرق الأضواء دومًا، يؤمن والدها بها جدًا ويتوقع لها نجاحًا باهرًا، في حين كانت جميلة ابنة الخادم صابر طفلة هادئة من أولئك الذين لا يشعر المرء بوجودهم. يمضي الزمان فيتغير حال جميلة إلى تفوق ونجاح واستقلال، في الوقت الذي لا تحقق فيه سلمى أي نجاحٍ يُذكر. لذلك تعتقد سلمى أن جميلة سرقت قدرها، لأن "جميلة" كان اسمها قبل أن يغيره أبوها بعد أسبوع من ولادتها. وهكذا فالرواية تحكي لنا هواجس سلمى وذكرياتها وأحلامها، وما أدى إليه تفاعلها مع ذلك كله.

ورغم أن الرواية قصيرة (222 صفحة) إلا أنّ هناك عددًا كبيرًا من الشخصيات، مما قد يسبب للقارئ ربكة في الوهلة الأولى. وقد رسمت المؤلفة بعض الشخصيات رسمًا مميزًا، فـ(رشيد) أبو سلمى إنسان فريد من نوعه، منغمس في لذاته، ولكنه في نفس الوقت يريد أن يكون أولاده متدينين. يصرف ببذخ ولا مبالاة، ولكنه يجيد بناء العلاقات الاجتماعية التي تدرّ على مصنعه أرباحًا وفيرة. هو الولد المدلل الوحيد الذي تعلّم وتفوق في دراسته، إلا أنه قرر أن لا يحضر امتحانات الثانوية العامة، وبأنه سينجح في حياته بالتعليم أو من غيره. هناك أيضًا شخصية العمة (نظلة) التي تعيش في ملكوتٍ آخر، تقضي وقتها في قراءة القرآن وتفسير الأحلام للذين يلجؤون إليها. لقد أضافت هذه الشخصية "الروحانية" قوة للجوّ العام الذي أرادته المؤلفة للرواية. ونجد كذلك (سميح) أخا رشيد من أبيه، ويجسّد في الرواية قيمة التسامح والسلام، يرعى بستانه بعيدًا عن المصنع، يعتني بثماره التي يصف منها أدوية للناس. ليس له أولاد، ولكن الأطفال دائمًا ما يلعبون في بستانه وسيّارته القديمة، ويهتّم كثيرًا بالطفلة (ماريز) ابنة العائلة المسيحية. ومن الشخصيات التي سيتذكرها القارئ (بدر الهبلة) تلك الفتاة المجنونة التي يربطها أبوها بـ"جنزير" كي يسلم الناسُ من لسانها وتسلم هي من تحرش محتمل، لكنها تهرب دائمًا وتلجأ إلى (جابر)، الوحيد الذي تصادقه وتودّه وتغار عليه، حتى أنها هربت من القرية بعد زواجه.

تتناول الرواية عددًا من الثيمات التي تتفاوت في قوتها وانتشارها، إلا أن الثيمة الأكبر هي الأحلام، وغالبًا ما تكون أحلام سلمى. وهذه الأحلام ليست إلا واقعا مشوهًا بطريقةٍ أو بأخرى، كما في أحلام سلمى عن أبيها وعن جميلة، وهي ليست مجرد أحلام لا تؤثر في الواقع، فنجد سلمى وكأنها تستجيب لأحلامها وتطيعها، حين تُحاسب زوجها على خيانته لها في الحلم، أو حين تقرر العودة إلى منزل أبيها الذي صار يلاحقها في الأحلام. وتحاول منصورة عزّ الدين تقوية هذه الثيمة من خلال المعلومات التي توردها في الحواشي عن تفاسير الأحلام لدى ابن سيرين، أو بالإشارة إلى أن سلمى تستعين بهذا الكتاب إلى جانب كتابات فرويد و يونج. ومن الطريف أن توظّف المؤلفة إحدى قصصها القصيرة ليكون حلمًا تحلمه سلمى (ص15). أما الثيمة القوية الأخرى فهي الخرافة، ونجدها في مقاطع عديدة في الرواية سواء من خلال شبح صابر الذي لا يكفّ عن الظهور لزوجته وابنته وغيرهما، أو الحكايات الشعبية التي استخدمتها المؤلفة بذكاء مثل قصة "كمّونة" التي تحاول الهرب من خاطفها، أو الممارسات التي يقوم بها أهل القرية مثل تقديم القرابين البشرية للحصول على البركة، و رمي البصل في النيل في موسم شم النسيم كي يخلصهم من اللعنات والشرور.

ومن الثيمات الفرعية نجد فكرة التعايش الديني، حيث نشاهد بشرى وهي تحاول بيع منتجاتها طلبا للرزق في مُولد "مار جرجس" و أمام كنيسة الشهيدة رفقة، قبل أن تعرّج على مقام سيدي أبي بكر. كما نجد شخصيات مسيحية مثل (رزق) الذي يعمل في مصنع جابر ورشيد، ويتعرض لمحاولةٍ مستمرة من إمام القرية لـ"هدايته" إلى الإسلام، و(عايدة) زوجة رزق التي يتولّد بينها وبين نساء القرية توجّس وكراهية دينية، خاصة مع (رحمة) والدة رشيد التي لم يرق لها أن يعمل في مصنع ابنيها "نصراني" وأن يسكن في ملكهم، إضافة إلى (مارجو) الطفلة المسيحية الأرستقراطية التي كانت دائمًا تلعب مع سلمى وجميلة وباقي الأطفال. كما نجد في الرواية ثيمة الخطيئة حاضرة في (لولا) خالة سلمى التي تموت منتحرة بعد حملها دون زواج، في حين فتحت الخطيئة بالنسبة لبشرى وابنتها جميلة بابًا تدلفان منه إلى عالم أفضل وشخصية أقوى.

من أقوى معالم هذه الرواية الاستخدام اللغوي، فقد أجادت منصورة عزّ الدين في الحفاظ على مستوى لغوي متوسط يبتعد عن التكلف أو الشاعرية المفرطة ويجتنب السطحية واللغة الجافة. هذا وقد نجحت المؤلفة في توظيف اللغة لتقريب المسافة بين القارئ والشخصيات والمكان الجغرافي الذي تدور فيه أحداث الرواية، حيث اعتمد الحوار كله على العامية الريفية، وتخللت السرد مفرداتٌ كثيرة متداولة في مصر من لغاتٍ أجنبية أو من العامية (مثل: فراندة، فوتيه، ألا جارسون، كوبيا، طبلية، لمبة، طلمبة، ساكسونيا). وهذا الهاجس في خلق نصٍ حي عاكسٍ للواقع تجلى أيضًا بشكلٍ مميز في رسالة كريستا الألمانية إلى هشام، حيث استخدمت المؤلفة لغة عربية (مصرية) ركيكة، مثل "لكن أنا عاوزة صراحة...لو إنت خلصت تحبني، لازم تقولي! أنا عارفة إنك حبتني، كان فيه الحب الحقيقي بيننا...شعوري ما غيرش، وإنت؟؟".

نلاحظ في الرواية أيضًا تدخّل المؤلفة بإيراد بعض الحواشي التي تشرح حلما أو حكاية شعبية أو حدثا تاريخيًا، وهذا ليس سيئا رغم أنه كان يُمكن دمج ذلك في النص نفسه، إلا أن هناك إحالات فرضتها المؤلفة تبدو خارجة عن سياق الرواية، مثلا في المقارنة بين رزق وبطل رواية "المهدي" لعبدالحكيم قاسم (ص139)، وبين عمل سلمى وبطل رواية "التاريخ العالمي للعار" لبورخيس (ص87).

في النهاية نقول بأن المؤلفة استطاعت أن تستغني عن الأحداث المتسارعة والأسرار وما إلى ذلك من عناصر التشويق، واستعاضت بسردها السلس الذي لا يطيل المكوث في مكانٍ أو زمان، فينتقل بالقارئ بسرعةٍ من صفحةٍ إلى أخرى دون أن يشعر بذلك. هي رواية جميلة، ولكن يحق لنا أن نتساءل (وربما نشكك) فيما إذا كانت ستستطيع المنافسة بقوة على جائزة البوكر مع الروايات الخمس الأخرى.