الأربعاء، 31 مارس 2010

تغييب الأنثى ما بين الأسطورة والواقع: عرض لرواية "حفلة الموت"




كتبتُ مقالا فيما مضى عن روايةٍ أميركية من روايات الخيال العلمي بعنوان "Sandstorm" تدور أحداثها حول أسطورة "أوبار" في جنوب عُمان، واستغربتُ حينها أنّ العمانيين أصحاب هذا الإرث لم يوظفوه في عملٍ أدبي، بينما جاء كاتب أميركي واستخدمه إبداعيًا. وقبل أيامٍ كنتُ أتحدث مع أحدهم فذكر لي حكاية ذات نكهةٍ أسطوريةٍ شعبيةٍ حدثت في عائلته وأكاد أجزم أنها متكررة في الذاكرة الشعبية العمانية، وهي تصلحُ بامتيازٍ أن تكون قصة قصيرة أو أساسًا لرواية ممتعة. لا شكّ لديّ في أنّ المخزون الشعبي العماني يحفلُ بعشرات الحكايات والأساطير التي تنتظر التوظيف الأدبي بطريقةٍ أو بأخرى. في هذا المقال نتحدث عن أحد الأعمال الأدبية التي استخدمت أسطورة عمانية شعبية هي "المغايبة" (أولئك الذين يأخذهم السحرة ثم يعودون إلى حياتهم) وتناولتها بطريقة جديدة، وهي رواية "حفلة الموت" لـ(فاطمة الشيدي) التي صدرت عام 2009 عن دار الآداب في 152 صفحة. والمؤلفة ناقدة وأكاديمية عُمانية لها دراسات نقدية كما أنها شاعرة أصدرت ثلاثة دواوين شعرية. وسنرى أنّ الرواية التي نحن بصددها تعكس شخصية المؤلفة، حيث الحضور الشعري الطاغي، وحيث التوظيف الإبداعي لمفردات الثقافة الشعبية أو إخضاعها للدراسة والتحليل، وهو ما يُنتظر حقًا من الأكاديميين.

أولُ ما يشدّ الانتباه في هذه الرواية غلافها، حيث نصطدم بعنوانٍ محيّر، ولوحةٍ فنية مثيرة . أما العنوان فكان اختياره موفقًا جدًا لجذب القارئ، إذ ما الذي يُمكن أن يجمع بين الاحتفال والموت؟ وأما اللوحة فنرى فيها رجلا وامرأة كل منهما إلى طريق مختلف، الرجل واضح المعالم نسبيًا واضح الألوان، أما المرأة فلا نرى منها إلا السواد، كأنها ظل، كأنها كائن بلا روح. وبين الرجل والمرأة نجد قطًا أسود له عينان برّاقتان ينظر مباشرة إلى القارئ. حقيقة لا أعرف هل تُعتبر هذه اللوحة موفقة أم لا، فهي من ناحية تهيئ القارئ للمناخ العام للرواية، إلا أنها -مع الغلاف الخلفي- تشي بأكثر مما ينبغي.

جاءت هذه الرواية القصيرة في 15 فصلا تتوزع أحداثها ما بين نزوى ومسقط والبحرين ولندن. تبدأ الرواية من الحاضر في جامعةٍ بحرينية حيث تتولد شرارة حبٍ بين بطلة الرواية الطالبة العمانية (أمل) ورئيس جماعة الفنون التشكيلية في الجامعة (أحمد الريّان). وتنجحُ المؤلفة في إثارة القارئ وتشويقه منذ الصفحات الأولى وفي سطورٍ بسيطة يُفهم منها أن هناك ماضٍ في حياة (أمل) يقف في وجه هذا الحب الوليد، حيث تقول: "أيها المجنون لا تلاحقني...ابتعد عني، فالمستحيلات في عمري أكثر من الغول والعنقاء والخلّ الوفي...يا إلهي، احمني منه، واحمه مني" (ص10-11). ورغم وعي البطلة بهذه المستحيلات إلا أنه وكالعادة في قصص الحب الجامعية تأبى هذه المشاعر إلا أن تتحقق في علاقة حب لا تعترف بحواجز ولا تنظر إلى مستحيلات. ومن هذا الحاضر نعود إلى الماضي لنكتشف السرّ الكبير في حياة (أمل) وما يشكله من عوائق لعلاقة حبها بأحمد. وبعد انتهاء الدراسة تعود أمل إلى عمان ويقلّ تسارع الأحداث ليدخلَ القارئ في حديث ذاتي طويل تسترجع فيه أمل الذكريات وتقرأ الواقع، ثم تسافر إلى لندن للدراسة ويبدأ تسارع الأحداث إلى أن تنتهي الرواية هناك في بلد الضباب.

من حيث البناء السردي اختارت المؤلفة أن تُروى الرواية من أولها إلى آخرها بصوت البطلة أمل، وهو خيارٌ مفيد جدًا للرواية حيث إن القارئ لا بد يتشوق لأن يرى الأشياء كما رأتها وشعرت بها صاحبة التجربة أو الضحية. ويُلاحظ في الرواية ندرة الحوار، واعتماد المؤلفة على المناجاة الذاتية "المونولوج". وعلى الرغم من المتعة التي تحققها هذه المناجاة في سردٍ لتجربةٍ أليمة تكشف صراع النفس مع الآخرين ومع ذاتها، إلا أن المؤلفة ربما بالغت في استخدامها حيث نجد صفحاتٍ طويلة لا يقطعها إلا سطران أو ثلاثة من الحوار، مما يسبب نوعًا من الرتابة.

ولا بدّ لنا من الاعتراف بالطريقة الجميلة التي تناولت بها المؤلفة أسطورة "المغايبة"، حيث يجد القارئ سردًا لعملية "التغييب" يُشبع قدرًا من فضوله، ويضفي على الرواية جوًا غرائبيًا ممتعًا، بدءًا من رؤية "المعلّم" للفتاة ثم سرقتها ثم إدخالها في تلك الطقوس الشيطانية وانتهاءً بعملية إعادتها إلى الحياة. ولقد أجادت المؤلفة في وصف كل ذلك و التبعات الغرائبية لاحقًا في الرواية لتكسر رتابة الأحداث. وبعد أن تصل المؤلفة بالقارئ إلى قمة الترقب والاندماج مع هذا الجو الأسطوري تختتم الرواية بحدثٍ غير متوقع، قد يكون رسالة جريئة من المؤلفة سيقف عندها القارئ -العماني خصوصًا- وقفة طويلة مُسائلة.

وفي الحقيقة فإن قضية "المغايبة" ليست الثيمة الرئيسة في الرواية أو مرتكزها الأساسي، فكان يُمكن استبدال هذا المكوّن الأسطوري بقضية اجتماعية أخرى تقف عائقًا أمام أحمد وأمل. في رأيي هذه الرواية نسوية بامتياز، وما جاء استخدام "المغايبة" إلا رمزًا لخدمة هذه الثيمة. فالتغييب الأسطوري رمز للظلم الواقع على المرأة من سلطة المجتمع الأبوي وسلطة من يتحدثون باسم الدين ومن النظرة الاجتماعية القمعية العنصرية، ورمز لتغييب المرأة فكريًا واجتماعيًا واختصارها إلى مادة للمتعة. نجد البطلة تهاجم الرجال بكل قسوة، تصفهم أحيانا بـ"حيوانات كأبي وعمومتي وجميع أبناء البلدة" (ص13) وأن كلا منهم "نخاس يبحث عن جارية لبيته" (ص13) و "لا يعرفون سوى الطعام والجنس ودور السيادة" (ص91)، ثائرة على كل ذلك حيث تقول لأمها "لن أتزوج أي حمار ورث النهيق، كما ورث كل صفات الرجولة المزعومة" (ص90)، مستنكرة موقف النساء الراضيات بهذا الدور، وفي أواخر الرواية في رسالة إلى حبيبها تصف ما تنتظره من الرجل في معاملته إياها. هي رواية النساء المظلومات المخدوعات المقهورات، بدءًا من "العبدة" التي انتهك الشيخ شرفها ثم اضطر لتزوجها، وانتهاءً بزميلات أمل في لندن اللائي يشتكين من رجالهنّ. وسيلاحظ القارئ بوضوح أن الشخصيات الذكورية في الرواية سيئة جدًا ، فهناك الساحر، وهناك الأب السيد السجّان القاتل، وهناك الخائن والمتحرش جنسيًا والعنصري، أما الاستثناءات فهي خارج بلدة البطلة: الحبيب في البحرين، والزميلان في مسقط، والطبيب في لندن.

وأما عن الاستخدام اللغوي في الرواية فيمكن الحديث عنه في عدة نقاط. أولا، نجد أن اللغة مُغرقة في الشعرية، وهذا بالطبع مُتوقع وليس بغريب على شاعرة مثل فاطمة الشيدي، ومن استمتعَ بروايات أحلام مستغانمي ومحمد حسن علوان مثلا سيجد نشوة لغوية كبيرة في هذه الرواية، حيث سيقرأ مقاطع بديعة من قبيل "فأن تكون كائنًا متألها بالحزن والجنون معًا، صوتًا متفردًا ومقدودًا من جرح شهي على ناصية موت في الآن ذاته، فتلك معادلة غير عادلة!" (ص31). ونحن إذ نعترف بهذه اللغة الجميلة لا بد أن نشير إلى أنّ فاطمة الشيدي الشاعرة طغت على الروائية، فانعكس ذلك في لغةٍ حالمةٍ متكلفة غير واقعية أحيانًا وغير مقنعة في سياقها خاصة في بعض الحوارات. فمثلا في بداية حوار بين الحبيب والحبيبة يسألها قائلا: "أيتها الأمل مذ رأيتكِ رأيت يدَ الله مفتوحة لتقدم لي الحياة، وتنهي رحلة البحث..كيف هي غاليتي؟" فتجيبه: "متصدعة كأرض جرفها الوادي وتشققت أخاديد وصدوعًا، متكسرة كمرآة حجرتي القديمة، متبعثرة كوجهي في تلك المرآة" (ص65)، وهذه لغة تبدو أقرب إلى فاطمة الشيدي منها إلى أمل أو أحمد. ثانيا، استخدمت المؤلفة اللغة العامية في الحوارات كي تضفي واقعية للنص وتمثيلا للمكان والثقافة التي تنتمي إليها الشخصية المتحدثة، إلا أنّ هذا الاستخدام كان مرتبكًا وغير دقيق. فمثلا اللغة التي يستخدمها أحمد لا تمثل جنسيته البحرينية أو لهجة أمه العراقية خير تمثيل، بل إن هناك كلمات يستخدمها هي أقرب إلى الكويتية مثل "مو الشكل، طيبين حيل، يا معودة". هذا ولا نجد في كلام أمل ووالدتها وأهل نزوى ما يمثل لهجة المنطقة الداخلية، بل هناك كلمات من مناطق أخرى في عمان مثل "شو؟ [أي ماذا؟]" و "مًشِي [أي لا يوجد]"، فهل هذه اللهجة العمانية البيضاء التي تجمع بين مناطق عمان مقصودة لغرض أرادته المؤلفة؟ أما الملاحظة الأخيرة فهي محاولة الكاتبة المزج بين العامية والفصحى في الحوارات، وهي تقنية استخدمها روائيون آخرون بطريقةٍ رائعة في مستوى وسطٍ بين العامية والفصحى، إلا أن المؤلفة لم تُوفق كثيرًا في هذا الاستخدام بسبب عشوائيته وعدم ثباته، حيث تُقحَم العامية في موضع، وتختفي تمامًا في مواضع أخرى في الرواية دون معيار واضح أو ثابت.

ختامًا نقول بأنها بداية روائية جيدة وظّفت أسطورةً عمانية لخدمة ثيمتها بصورة فريدة، وكان يُمكن أن تكون أكثر إمتاعًا وأكثر إقناعًا لو ابتعدت عن المباشرة في طرح القضية النسوية التي جاءت في بعض المواضع فيما يشبه الخطابات النسوية التي ألفناها في الكثير من المقالات والخواطر الأدبية وأشعار نزار قباني.

الأربعاء، 17 مارس 2010

أن تكون قويا دون دبابات: عرض كتاب "القوة الناعمة"



لا بد أنك سمعتَ يومًا من أشخاصٍ أنّ الغربَ يحاول تدمير هوياتنا وقِيَمنا وديننا بما يصدّره لنا من "فجور وفساد"، أو سمعتَ المثقفين وهم يتحدثون عن الغزو الثقافي الغربي بنظرية المؤامرة وما إلى ذلك، إلا أننا نادرًا ما نجد من يحاول تحليل هذه الإطروحات وفق نموذج تفسيري إو إطار نظري واضح وموضوعي نفهم به الأمر كله في سياقه التاريخي والسياسي، إلى أن ظهر لنا (جوزيف س. ناي) بمصطلح "القوة الناعمة" عام 1990. وفي هذا المقال نستعرض كتابه الأخير "القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية" الصادر عام 2004، في ترجمته العربية التي أنجزها (محمد البجيرمي) وصدرت عن مكتبة العبيكان عام 2007. والمؤلف ليس مجرد مفكرٍ أو محلل سياسي، فهو عميد كلية كيندي للدراسات الحكومية في جامعة هارفارد، وكان رئيس مجلس المخابرات الوطني و مساعد وزير الدفاع في أميركا.

ولقد جاء هذا الكتاب ليوضّح مفهوم "القوة الناعمة" ويطوّره ويوضّحه بالأمثلة لأنّ الناس قد أساؤوا فهمه واستخدامه، وحصروه في نظرة سطحية لا تتجاوز تأثير الماكدونالدز والأفلام وتقاليع الأزياء وما إلى ذلك. أما التعريف الذي يضعه في الكتاب للقوة الناعمة فهو "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال" (ص12)، وهكذا فهي تختلف عن القوة الصلبة المكونة من العتاد العسكري والثراء الاقتصادي واستعمالهما بالتهديد بالعقوبات أو الاستمالة بالمساعدات. أن تمتلك قوة ناعمة يعني أن تجعل الآخرين يعجبون بك ويتطلعون إلى ما تقوم به فيتخذون موقفًا إيجابيًا من قِيَمك وأفكارك وبالتالي تتفق رغبتهم مع رغبتك.

يبدأ الفصل الأول بتأصيل مفهوم القوة الذي يكثر الحديث عنه ويقل فهمه، وهو كما يقول المؤلف عبارة عن القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للقيام بعملٍ ما يتفق مع ما نريده. بعد ذلك ينتقل الحديث إلى القوة السياسية الناعمة بالنسبة للدول، ليوضح أن بلدًا ما قد يكون قويًا ذا تأثيرٍ في السياسة الدولية "لأن هناك بلدانا أخرى-معجبة بمُثُله، وتحذو حذوه، وتتطلع إلى مستواه من الازدهار والانفتاح-تريد أن تتبعه" (ص24). وهكذا نفهم أنّ القوة الناعمة تعتمد على قدرة الدولة في صياغة رغبات الآخرين بعد أن تكون بمثابة قدوةٍ لهم يتبنون قِيَمها وأسلوب حياتها. ومن أهم مزايا القوة الناعمة أنها تغني عن استخدام أسلوب العصا والجزرة، وهناك دول لا تمتلك قوة عسكرية أو اقتصادية كبيرة، إلا أنها تتمتع بقوة ناعمة بسبب مشاركتها في قضايا عالمية جاذبة مثل محادثات السلام ومبادرات الحفاظ على البيئة ومكافحة الأمراض والأوبئة. ولكن ذلك لا يعني بالطبع التقليل من أهمية القوة الصلبة.

أما الفصل الثاني فقد يكون الأكثر إمتاعًا حيث يستعرض فيه المؤلف العديد من العوامل التي يمكن أن تكون مصادر ثرية للقوة الناعمة الأميركية. فمثلا تحتوي أميركا على 62% من أهم العلامات التجارية في العالم، وبها 28% من جميع الطلاب الدارسين خارج بلادهم، وهي أكثر دولة تستقطب المهاجرين وتنشر الكتب والمؤلفات الموسيقية وتنتج البحوث العلمية، إضافة إلى كونها أهم مصدّر للأفلام والبرامج التلفزيونية. ولكن المؤلف لا يقف هنا بل يذكر أيضًا العوامل المنفرة من أميركا، ويوضّح أن وجود تلك المصادر الجاذبة لا يعني بالضرورة إنتاج قوة ناعمة متحققة، لأنها يجب أن تتناغم مع جاذبية السياسة العامة للبلد، فمثلا رغم الإعجاب الجماهيري العالمي بعلوم أميركا وتقانتها وأفلامها وموسيقاها إلا أنها خسرت كثيرًا من جاذبيتها في حرب فيتنام وعند غزو العراق عام 2003.

ومن أهم ما تحدث عنه المؤلف دور الثقافة النخبوية في إنتاج القوة الناعمة، فعرض على أهمية المبادلات الأكاديمية والعلمية وكيف أن الكثير من العلماء السوفييت الذين زاروا أميركا قد تأثروا بالأفكار الأميركية وأصبحوا لاحقًا ناشطين في حركات حقوق الإنسان في الاتحاد السوفييتي. بعد ذلك تحدث عن دور الثقافة الشعبية المتمثلة في الأفلام والأغاني والرياضة وما إلى ذلك مما يبثّ القيم الأميركية حتى وإن بدت سطحية مبتذلة، ولا يمكننا أبدًا التقليل من تأثير هوليوود "فالصور كثيرًا ما تنقل القيم بصورة أقوى مما تفعل الكلمات، وهوليود هي أكبر مروّج ومصدّر للرموز البصرية" (ص82). ويشير المؤلف إلى أنّ هذه الثقافة الشعبية هي التي تغلبت بقيم الحرية والديمقراطية والليبرالية والشبابية على مدّ الفكر الشيوعي، وهي التي اخترقت جدار برلين بزمن طويل قبل سقوطه. وفي الصين يذكر الكاتب مثالا إحدى المُعارِضات التي كانت تدندن بأغاني (بوب ديلان) في رأسها عندما تُجبر على الاستماع إلى الخطب الشيوعية، وكذلك أفلام هوليود المهربة التي دغدغت رغبة الشباب الصيني في إحداث التغيير والانفتاح السياسي. وتجدر الإشارة إلى أنّ الإعجاب بالقيم الأميركية لا يعني الرغبة في تقليد أميركا، فهناك ملاحظات سلبية كثيرة على الممارسة الأميركية لهذه القيم خاصة لدى المجتمعات التي تهتم بالقيم الأسرية والاجتماعية.

ولكن أميركا ليست الرائدة في كل نوعٍ من مصادر القوة الناعمة، وهذا ما يوضحه الفصل الثالث حين يتحدث عن الدول الأخرى مثل الاتحاد السوفييتي الذي كان له تأثير كبير تقوّيه الأحزاب الشيوعية في مختلف مناطق العالم، وكان ينفق كثيرًا لنشر ثقافته وفنونه ويشارك في القضايا الإنسانية الجذابة، إضافة إلى تقدمه العلمي الكبير. أما المنافس الحالي الأقوى لأميركا فهي أوروبا، حيث الفنون والآداب والأزياء والأطعمة الأوروبية تتمتع بجاذبية عالمية طاغية، إضافة إلى أن الدول الأوروبية تحتل المراكز الخمسة الأولى في عدد جوائز نوبل في الأدب، والمراكز العليا في مبيعات المؤلفات الموسيقية ونشر الكتب. هذا وتنفق جميع الدول الأوروبية أكثر مما تنفقه أميركا على مساعدات التنمية الدولية والدبلوماسية العامة، بالإضافة إلى جاذبية أوروبا كونها تميل للسلم وتدافع عن قضايا حقوق الإنسان وحفظ البيئة وغير ذلك، وكونها ذات خبرة أكبر وأفضل من أميركا في إدارة المؤسسات متعددة الجنسيات. بعد ذلك يتحدث المؤلف عن آسيا وخاصة اليابان التي لها قوة ناعمة كبيرة بسبب كونها صاحبة أكثر براءات اختراع في العالم، ورائدة الصور المتحركة وألعاب الفيديو، واحتلالها المركز الثاني في بيع الكتب والموسيقى وصادرات التقانة العليا واستضافة المواقع الإلكترونية، مع الإشارة إلى المستقبل الباهر الذي ينتظر الصين والهند. ويختتم المؤلف هذا الفصل بالحديث عن المؤسسات غير الحكومية التي تتمتع بقوة ناعمة كبيرة مثل المنظمات الحقوقية والشركات عابرة القومية، خاصة وأنها تستفيد الآن من الثورة المعلوماتية والاتصالات.

وأما الفصل الرابع فقد ركّز على إتقان استخدام القوة الناعمة، كما فعلت فرنسا حين نشرت لغتها وآدابها في الخارج في القرن التاسع عشر. ومن الأمثلة الهامة والمثيرة مكتب الخدمات الإستراتيجية في أميركا الذي كان يعمل على "نشر المعلومات المضللة...[و] تشكيل منتجات هوليود لتصبح أدوات دعاية فاعلة، واقتراح إضافة أشياء أو حذف أشياء، وحرمان أفلام أخرى من الرخصة" (ص153). ثم تحدث المؤلف عن تراجع الاهتمام الأميركي باستثمار القوة الناعمة مع مرور السنين إلى أن جاءت أحداث 11 سبتمبر حين بدأ الأميركان بمراجعة أنفسهم. وينصح المؤلف بأن تهتم أميركا بنشر صورة حسنة عن نفسها في العالم وعدم الاعتماد على أصدقائها من الحكّام، فغالبية الدول الآن تنتهج الديمقراطية ولديها برلمانات وجماهير تؤثر في السياسات الدولية. ولعلاج ذلك يقترح المؤلف استخدام ثلاثة أبعاد للدبلوماسية العامة وهي (1)الاتصالات اليومية، أي توضيح السياسات المحلية والخارجية عبر الإعلام، (2) الاتصال الاستراتيجي، أي الحملات السياسية الدعائية المركزة، (3) العلاقات الدائمة مع الشخصيات، وذلك عبر المنح الدراسية والمبادلات الأكاديمية والتدريب والمؤتمرات، على أن تتماشى هذه الأبعاد مع السياسة العامة للبلد لزرع صورة إيجابية. ويخصص المؤلف جزءًا للحديث عن الشرق الأوسط وصعوبة استخدام القوة الناعمة فيه لأسباب عديدة منها الفوارق الثقافية الكبيرة بين أميركا والشرق الأوسط ونزعة العداء لأميركا. رغم ذلك فهناك جوانب كثيرة من الثقافة الأميركية يحبها الشرق الأوسط تُعدّ أساسًا جيدًا للقوة الناعمة إلا أنّ أميركا أثبتت فشلها في استغلال هذه الفرص. لذلك فقد وضعت لجنة استشارية بعض التوجيهات لزيادة قوة أميركا الناعمة في البلاد العربية الإسلامية مثل إنشاء المكتبات وترجمة الكتب الغربية إلى العربية وزيادة المنح الدراسية والزيارات الأكاديمية، ويشدّد المؤلف على ذلك بقوله إن "أهم شيء هو تطوير استراتيجية بعيدة الأمد للمبادلات الثقافية والتعليمية التي تنمي مجتمعًا مدنيًا أغنى وأخصب وأكثر انفتاحا في بلدان الشرق الأوسط. إن أكثر الناطقين باسم أميركا فاعلية وتأثيرًا ليسوا هم الأميركيين، بل وكلاؤهم المحليون من أهل البلاد الأصليين الذين يفهمون فضائل أميركا وعيوبها كذلك" (ص181).

وأما الفصل الأخير من الكتاب فمخصص للحديث عن العلاقة بين السياسة الخارجية الأميركية والقوة الناعمة، وقد بيّن فيه المؤلف كيف أن هذه السياسة "المكروهة" أدت إلى انحدار القوة الناعمة وتناقص أثر الثقافة الشعبية الأميركية في العالم في مقابل تزايد الإقبال على الثقافات الأخرى والفاعلين الآخرين، مثل تنظيم القاعدة الذي زادت قوته الناعمة إثر معاداة أميركا. ويحذر المؤلف من تجاهل القوة الناعمة ويستنكر أن أميركا تنفق على القوة العسكرية أكثر من الناعمة ب17 ضعفًا. يناقش المؤلف الطريقة التي يجب التعامل بها مع القوة الناعمة مقدمًا نصائح مبنية على قراءة الأوضاع التي وصلت لها السياسة الخارجية الأميركية.

هو كتابٌ من أهم الكتب التي قرأتها مؤخرًا، مكتوب بأسلوب سهل ممتع ومدعّم بالأمثلة الواقعية التي تجعلك تفهم الأثر الذي تتركه المنتجات الحضارية في السياسة الدولية.

الأربعاء، 10 مارس 2010

الترجمة في عصر النهضة العمانية


(نُشرت هذه الورقة في كتاب "وفاء الكلمة" الذي تم تدشينه في معرض مسقط الدولي للكتاب عام 2010 بمناسبة مرور 40 عاما على النهضة العمانية الحديثة)

مقدمة
تحكي الأسطورة أنّ البشر كانوا يتحدثون لغةً واحدة، وأنهم سكنوا أرضًا تُسمى (شنعار)، فأرادوا أنْ يعبّروا عن وحدتهم هذه ببناء مدينةٍ و برجٍ شاهقٍ رأسهُ في السماء، فشاء الربّ لحكمةٍ أرادَها أن يشتتهم ويبلبل ألسنتهم، فدمّر البرجَ عليهم وبدّدهم، فتوقفوا عن البناء وتفرقوا في الأرض كما تفرقت لغاتُهم. وسُمِّيَ البرجُ "برجَ بابل" لأنّ بتدميره تبلبلت ألسنةُ البشر. ولكي يستطيع البشرُ أنْ يتفاهموا ويقيموا بينهم شتى أنواع العلاقات الإنسانية كان لا بد لهم من وسطاء يسهّلون التواصل بينهم، وكان هؤلاء الوسطاء هم المترجمون. وهكذا فكما أنّ برج بابل رمزٌ لانهيار الوحدة اللغوية، فهو في الوقت نفسه رمزٌ لنشوء وظيفة الترجمة في المجتمع.

ونحن إذ نسوق هذه القصة لا ندعو إلى تصديقها بالطبع، وإنما هي أسطورة نستشهد بها لنمثّل على السياق الذي تظهر فيه الترجمة وتنمو داخله. وعندما ننظر إلى القصة هذه بعينٍ فاحصة فإننا نُدرك بأن الترجمة فعلٌ اجتماعي لا ينحصر في العملياتِ اللغوية، بل هو ضرورة تفرضها التعددية الإنسانية بلغاتها وثقافاتها وحاجتها إلى التواصل والتعارف والتبادل بكافة أشكاله. ولا يخفى على أحدٍ ما للترجمة من أهميةٍ حضارية، فعن طريقها تستوردُ الحضارةُ ما تحتاجُ إليه من علوم ومعارف وآداب وفنون، وبها تصدّر نفسها وهويتها ومعارفها، وبها ترى نفسها بعيون الآخرين، وبها يتحقق التواصل الإنساني بمختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، إلى غير ذلك من الأدوار التي تؤديها الترجمة. ومعروفٌ ما كان للترجمة من مكانةٍ في الحضارة الإسلامية التي احتاجت في بداياتها إلى استيراد التراكم المعرفي اليوناني والاستفادة منه في مسيرتها نحو الإنتاج والتفوق الحضاري، والدورُ الحيوي الذي قامت به الترجمة لتأسيس النهضة الغربية الحديثة إثر نقل ما أنتجته الحضارة الإسلامية. وهكذا يصحّ القولُ بأن نهضة الأمم وتقدّمها ينعكسان على ما توليه أمةٌ ما للترجمة من اهتمام ورعاية.

ولمّا كانت للترجمة مثل هذه الأهمية في الصحوات الحضارية، فإننا إذ نحتفل في هذا الكتابِ بمرور 40 عامًا على النهضة العمانية المباركة، يتعيّن علينا النظر في وضع الترجمة في عُمان وتتبع مسيرتها وتطورها. وحتى نقف على هذا الأمر من جميع جوانبه سنعرض نبذة تاريخية قصيرة تمهيدًا لحديثنا عن الترجمة في عصر النهضة، والذي سيتطلب منا أن نقسّمه إلى ما يمكن أن نسميه "مشاهد" يتركز كل منها في بُعدٍ محدد من أبعاد نشاط الترجمة في عُمان. وتجدرُ بنا الإشارة هنا إلى أن هذه المهمة تشوبها بعض المصاعب نظرًا لغياب الدراسات والإحصائيات، خاصة فيما يتعلق بالفترات التاريخية القديمة. وهكذا فإن ما سيتم عرضه في الفقرات اللاحقة أقرب إلى أن يكون قراءة في الواقع المُعاش منه إلى التوثيق المستند إلى إحصائيات وبيانات منشورة.

الترجمة في عمان عبر التاريخ
على الرغم مما أشرنا إليه في المقدمة من ندرة الوثائق التاريخية وشبه غياب الدراسات التي تشير إلى دور الترجمة في عمان في العصور القديمة، إلا أن بحوزتنا عددًا من المعطيات التاريخية التي تمكننا من طرح بعض الفرضيات حول وجود الترجمة وممارستها في عُمان قديمًا. ونسوق للقارئ الكريم هنا هذه الاستنتاجات التي خلصُ إليها الباحث الدكتور عبدالله الحراصي في دراسةٍ هي الوحيدة في هذا الموضوع على حدّ علمنا.(1)

ذكرنا في المقدمة أنّ الترجمة تنشأ في نقاط التلاقي بين المجموعات البشرية بتعدد لغاتها وثقافاتها وحضاراتها، ولا شكّ في أنّ الدول لا يمكنها بحالٍ من الأحوال أن تعيش بمفردها منعزلة انعزالا تامًا عن الدول الأخرى في العالم، خاصة المحيطة بها. ولو نظرنا إلى موقع عُمان الجغرافي سنجده مطلا على عددٍ من الحضارات الأخرى؛ فمن ناحية الشمال توجد الدولة الفارسية، ومن ناحية الشرق خلف المحيط الهندي توجد الهند والصين، ومن ناحية الجنوب توجد إفريقيا، إضافة إلى قرب تأثير الحضارتين المصرية والرومانية. ومعلومٌ تاريخيًا أنّ عُمان اتصلت بهذه الحضارات سياسيًا واقتصاديًا، وهكذا فمن المنطقي أن نستنتج من هذا الموقع الجغرافي أنّ العمانيين قد مارسوا الترجمة أيا كان شكلها للقيام بهذا التواصل.

وإن حاولنا تتبع تاريخ عُمان القديم سنجد أنّ العمانيين الأوائل عندما نزحوا إلى أرض عمان بعد انهيار سد مأرب عقدوا نوعًا من المعاهدات مع الفرس الذين كانوا يسكنون هذه الأرض، وأنّ دولة اليعاربة قد عقدت اتفاقيات مع دولٍ أخرى أيضًا، مما لا يدع مجالا للشك بأن شكلا من أشكال الترجمة لا بدّ أن يكون قد أتاح هذا الاتصال. ومن الثابت تاريخيًا أيضًا اتجار العمانيين في شبه القارة الهندية، مما يحتّم ممارسة الترجمة لإنجاز المعاملات التجارية وللتواصل بين التجار العمانيين ونظرائهم من الهنود وغيرهم.

أما في فترة حكم آل بوسعيد، وخاصة في عهد السيد سعيد بن سلطان في النصف الأول من القرن التاسع عشر فتوجد وثائق تاريخية تشير إلى وجود الترجمة لإعداد المراسلات بين الدولة العمانية والدول الأخرى. وتشير المصادر التاريخية إلى أن السيد سعيد ابتعث عددًا من العمانيين إلى الهند لدراسة اللغة الإنجليزية كي يصبحوا مترجمين لديه يعملون على إنجاز المراسلات وترجمة الوثائق. هذا ويبدو أن توظيف المترجمين في بلاط السلطان لم يتوقف، حيث تشير المصادر إلى مترجمين آخرين في عهد السيد تركي بن سعيد بن سلطان.

كانت هذه استنتاجات ومعلومات سردها الدكتور عبدالله الحراصي في دراسته الوحيدة، إلا أنه ما تزال هناك حاجة ملحة للقيام بدراسات حول ممارسة الترجمة في تاريخ عمان، خاصة فيما يتعلق بفترات نفوذ الدولة العمانية في شرق إفريقيا وجوادر ومكران وساحل فارس.

الترجمة في عُمان في عصر النهضة
إن الترجمة لا تنمو أو تزدهر إلا في ظل الانفتاح والتواصل مع الآخر، أما في حالات الجنوحِ إلى الانعزال فإن المجتمع ينكفئ على نفسه ولا يحتاج إلى وساطة بينه وبين مجتمعات أخرى. إذن فما من شكّ في أن النهضة العمانية التي أقامها في عام 1970 حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد حفظه الله ورعاه قد شهدت نشاطًا ترجميًا فرضه الواقع الجديد المنفتح على الآخر والراغب في اللحاق بركبه. وعندما ننظر في تطوّر هذا النشاط في عُمان الحديثة نجد أنه من الضروري تقسيمه إلى فترتين: (1) من 1970 إلى 2002، و (2) ما بعد 2002 حتى الآن، وذلك لوجود طفرة نوعية تحتّم علينا هذا التقسيم.

1970-2002
اتسم الإنتاج الترجميّ العماني في هذه الفترة بالمبادرات الفردية والجهود الحكومية المتفرقة؛ حيث قامت المؤسسات الحكومية المختلفة بإنجاز ترجمات في مجالاتها التخصصية، وسادت الترجمات التي تُعنى بكل ما يتعلق بعمان من تاريخ وجغرافيا وزراعة وآثار وموسيقى ومعادن وما إلى ذلك. ولعلّ أوفر هذه الجهود من نصيب وزارة التراث والثقافة، حيث نشرت في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي العديد من الترجمات المتعلقة بتاريخ عمان وتراثها مما كتبه الباحثون والرحّالة والمؤرخون الغربيون. ولا بد هنا من الإشارة إلى المترجم العماني (محمد أمين عبدالله) وهو أحد أهم المترجمين العمانيين، حيث ترجم العديد من الكتب التي نشرتها وزارة التراث والثقافة.

وإلى جانب هذه الترجمات التي كانت تصدرها الوزارات والمؤسسات الحكومية كانت هناك مبادرات فردية لترجمة كتبٍ كانت جميعها على حدّ علمنا تتعلق بعمان من قريب أو بعيد(2)، باستثناء كتابٍ واحدٍ في الدراسات السينمائية(3). وبالإضافة إلى ترجمة الكتب كانت هناك ترجمات أدبية وثقافية قليلة تنشرها الصحف والمجلات العمانية من وقتٍ لآخر.

ما بعد 2002
ظلت المؤسسات الحكومية ودور النشر الخاصة تصدر الكتب المترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية وبالعكس، وظلّ التركيز منصبًا على ترجمة ما يتصل بعمان فقط، ولم يُترجم من الكتب الأخرى-على حد علمنا- إلا خمسة كتب أدبية وكتاب واحد في الإعلام(4). ولقد حقق نشاط الترجمة في هذه الفترة حضورًا أكبر في شتى الميادين إثر تحوّله إلى الفعل المؤسسي المتخصص، وفي الحقيقة فإن الترجمة في عُمان لم تكتسب طابعًا مؤسسيًا مكثفًا إلا مع ظهور "مجموعة الترجمة" في جامعة السلطان قابوس عام 2002، وبها ومنها أصبح للترجمة في عُمان بعدٌ جديدٌ آخر. ورغم أنّ هذه المجموعة طلابية محدودة الموارد إلا أن تأثيرها في الساحة الثقافية العمانية يستحقّ منا أن نتتبعه منذ البداية.

المشهد المؤسساتي
1- مجموعة الترجمة
كانت فكرة إنشاء مجموعةٍ طلابية تتخصص في الترجمة مبادرةً من أحد الطلاب في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، قام بعرضها على أحد أعضاء هيئة التدريس في القسم حيث شجّعها وساهم في تنفيذها ليصبح مشرفًا على المجموعة فور تأسيسها(5). وفي الرابع عشر من سبتمبر 2002 تم عقد الاجتماع التأسيسي للمجموعة والذي عُرضت فيه أهدافها وخطتها المقترحة، واختير فيه الأشخاص الذين سيديرونها.

ولقد وضعت المجموعة لنفسها أهدافًا رئيسة تحاول تحقيقها من خلال أنشطةٍ وفعاليات متنوعة. أحد تلك الأهداف كان الاهتمام بممارسة الترجمة وتطوير مهارات الطلاب فيها. لذا قامت المجموعة بعقد دورات تدريبية مسائية في الترجمة العامة والترجمة الأدبية يعدّها أعضاء المجموعة بمساعدة أساتذة في قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، وما زالت هذه الدورات مستمرة حتى الآن وتشهد إقبالا كبيرًا من طلاب الجامعة وبعض موظفيها. هذا ودأبت المجموعة على تقديم محاضراتٍ يتحدث فيها المُحاضرون عن تجاربهم في الترجمة وأهم المشكلات والآليات والحلول التي يمكن استخلاصها من تلك التجارب. ومن أهمّ إسهامات المجموعة داخل الجامعة أيضًا القيام بترجمة نصوصٍ لمكتب التوجيه الوظيفي بالجامعة، حيث أنجز بعض أعضاء المجموعة ترجمة لكتابَي "التخطيط المهني الناجح"، و "دليل المقابلة المبسّط".

هذا وتقيم المجموعة سنويًا فعالية "أسبوع الترجمة" الذي يتضمن ندوة علمية ومحاضرات ومسابقات ومعرضًا وعرض أفلام من ترجمة أعضاء المجموعة، إلى جانب أنشطة أخرى. كما أطلقت المجموعة عام 2005 "منتديات مجموعة الترجمة" على شبكة الإنترنت، وهو منتدى أكاديمي متخصص في الترجمة ويجتذب أعضاء من مختلف الدول العربية. جديرٌ بالذكر أيضًا أن المجموعة دأبت على إنجاز مشاريع في الترجمة تهدف بالدرجة الأولى إلى تطوير مهارات الأعضاء وتشجيعهم على ممارسة الترجمة، مثل "مشروع الأدب الصيني" و "مشروع الأدب الهندي" و "مشروع الأدب الإفريقي" و "مشروع أدب الطفل" و "مشروع أدب الخيال العلمي" و "مشروع الأدب الشعبي العماني".

أما الهدف الرئيس الثاني والذي أدّى إلى انتشار المجموعة خارج الجامعة فكان إبراز دور الترجمة بوصفها عنصرًا فاعلا في الثقافة، وذلك من خلال نشر الترجمة الثقافية (انظر قسم المشهد الثقافي أدناه).

2- المجموعات الطلابية الأخرى
وعلى غرار "مجموعة الترجمة" بجامعة السلطان قابوس ظهرت مجموعات مماثلة في المؤسسات التعليمية الأخرى، فظهرت "مجموعة الترجمة" في كلية العلوم التطبيقية بصحار، و "مجموعة الترجمة" في جامعة نزوى. وتقوم هذه المجموعات بعقد محاضرات وورشات عمل وفعاليات متنوعة في الترجمة رغبة في تحفيز الطلاب وصقل مواهبهم. وكان آخر هذه الفعاليات "أسبوع الترجمة" الأول في جامعة نزوى حيث أقيم عددٌ من المحاضرات وورشات العمل، إضافة إلى عرض فيلم أجنبي من ترجمة المجموعة، وإقامة معرض للترجمات التي أنجزها طلاب الترجمة في الجامعة.

3- أسرة الترجمة
في بدايات عام 2008، ارتأى "النادي الثقافي" في مسقط ضرورة تشجيع الترجمة الثقافية من خلال إنشاء "أسرة" للترجمة تحتضن المترجمين وخريجي الترجمة وتمنحهم مساحة يستطيعون فيها المشاركة بإبداعاتهم والتعاون مع زملائهم في أنشطةٍ ترجمية ثقافية تخدم المجتمع. وفي شهر أبريل 2008 تم تأسيس الأسرة واختيار أعضاء إدارتها، ومناقشة الخطة المقترحة، والتي اشتملت على أنشطةٍ طموحة تتمثل في إعداد قاعدة بيانات للمترجمين في عُمان والنصوص المترجمة والنصوص المرشحة للترجمة، وإطلاق مسابقة سنوية في الترجمة، إضافة إلى أنشطة ترجمية أخرى ما بين محاضرات وندوات ومشاريع.

ورغم أن الأسرة قد أطلقت بالفعل مسابقتها السنوية في الكتب المترجمة، وأنجزت قسمًا كبيرًا من قاعدة البيانات، إلا أنها تعثرت في العام الماضي (2009) وتوقف نشاطها لأسبابٍ إدارية وتنظيمية وفقا لما صرّحت به إدارة النادي الثقافي.

المشهد الثقافي
رغم حداثة النشاط الترجمي الثقافي في عُمان إلا أن نشر الترجمة قد خطا خطوات مميزة في السنوات الأخيرة، فمن يتابع الصحف المحلية والملاحق الثقافية المختلفة يجد حضورًا جيدًا للنصوص المُترجمة، وإن كان يطغى عليها الطابع الأدبي. فملحق "شرفات" الأسبوعي في جريدة "عمان" كان وما يزال ينشر العديد من الترجمات الأدبية، وكذلك تفعل مجلة "نزوى" الفصلية، فيما تخصص جريدة "الزمن" صفحتين كل ثلاثاء لنشر الترجمات الأدبية، وتنشر مجلة "الثقافية" الفصلية التي يصدرها مركز السلطان قابوس للثقافة الإسلامية وملحق "آفاق" الأسبوعي في جريدة "الشبيبة" و ملحق "أشرعة" الأسبوعي ترجمات أدبية وثقافية من حينٍ لآخر. ولعلّ أكثر الإسهامات الترجمية في المشهد الثقافي كانت من نصيب "مجموعة الترجمة" بجامعة السلطان قابوس والتي نشرت عددًا كبيرًا من النصوص المُترجمة ومقالات الترجمة في المنشورات المحلية، بدءًا من العدد الثاني من ملحق "شرفات" في جريدة "عمان" الذي احتضن إنتاجات المجموعة وشجّعها وأبرزها عبر نشر عددٍ من الملفات الترجمية أو النصوص المتفرقة. كما نشرت المجموعة نصوصًا في مجلة "نزوى"، وشاركت بملفٍ ترجمي في العدد الخاص من المجلة احتفاء باختيار مسقط عاصمة للثقافة العربية. هذا وقد توّجت المجموعة جهودها عام 2008 بإصدار كتابين من القصص المترجمة إلى العربية عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت(6).

لا شكّ في أن لهذه المنشورات جميعها فضلا في دعم نشاط الترجمة وإبراز، إلا أنّ هناك ثلاثة منشورات تخصصية تستحق وقفة وتأمل، هي ملحق "الجسر" و ملحق "Beacon" و ملحق "قراءات".

في سبتمبر 2007 أطلقت "مجموعة الترجمة" بجامعة السلطان قابوس ملحق "الجسر" الذي كان يعدّه الطلاب في المجموعة تحت إشراف أحد الأكاديميين المتخصصين في الترجمة، وكان يصدر عن جريدة "عمان" داخل ملحق "شرفات". وكان الملحق متخصصًا في الترجمة ونشرها، حيث كان ينشر الترجمات الأدبية والحوارات مع المترجمين ومقالات في الترجمة وبعض الأخبار والتغطيات. ولقد كان يهدف بالدرجة الأولى إلى تشجيع المترجمين المبتدئين واكتشاف المواهب الجديدة وتحفيزها، وكانت أغلب المشاركات من أعضاء مجموعة الترجمة، إضافة إلى بعض المشاركات من أكاديميين ومترجمين. واستمرّ صدور الملحق من سبتمبر 2007 حتى نوفمبر 2008، ثم توقف.

وفي يوليو 2009 عاد ملحق "الجسر" مرة أخرى ولكن بأهدافٍ جديدة وتركيز مختلف ومكانٍ آخر، حيث أصبح يصدر في جريدة "الشبيبة" بالاشتراك بين "أسرة الترجمة" في النادي الثقافي و"مجموعة الترجمة" بجامعة السلطان قابوس، ولا يتوجه بشكلٍ أساسي إلى الطلاب والمبتدئين، وإنما إلى الأكاديميين والمترجمين المتحققين إن صح التعبير، ويركّز على نشر الترجمات في المجالات العلمية والتقانية أكثر من الأدبية. جديرٌ بالذكر أن النصوص الأصلية التي تُترجم في "الجسر" تتسم بكونها نصوصًا جديدة من أشهر الصحف والمجلات العالمية، لتضع بين يدي القارئ العماني أحدث المقالات والأخبار والقضايا المستجدة في العلوم والتقانة والفكر.

أما ملحق "Beacon" الذي بدأ في نوفمبر 2008، فهو ملحق يصدر باللغة الإنجليزية متخصص في ترجمة الأدب العماني إلى الإنجليزية، تصدره الجمعية العمانية للكتاب والأدباء في جريدة "Times of Oman" شهريًا. ويتميز هذا الملحق بأنه مبادرة فريدة من نوعها تهدف إلى تعريف القارئ الأجنبي في عُمان بالإبداع الأدبي العماني، في ظل غياب الترجمات عن هذا الأدب، كما يهدف الملحق أيضًا إلى تدريب المترجمين العمانيين على خوض الترجمة إلى اللغة الأخرى. وهكذا فقد استطاع القائمون على الملحق في كل شهر تقديم كاتب أو أديب عماني جديد إلى القرّاء الأجانب، إضافة إلى تقديم مترجمٍ عماني جديد إلى الإنجليزية. ورغم محدودية المتلقين الأجانب-حيث إن الملحق يُطبع ويُنشر في عُمان فقط- إلا أنه يصلح كبذرة جيدة لمشاريع ترجمية مستقبلية إلى اللغة الإنجليزية، كما أنه يشكّل مادة مفيدة لتدريب طلاب الترجمة في الجامعات.

وأما ملحق "قراءات" الصادر أسبوعيًا عن جريدة "عمان" فهو ملحق ثقافي صغير مقارنة بالملحقين السابقين، ينشر ترجمات لنصوصٍ أدبية وحوارات وأخبار وفصولٍ من كتب أجنبية. ويتميز هذا الملحق بمتابعته للتطورات الأدبية والثقافية وتقديم النصوص الجديدة المتميزة في عالم الأدب.

مشهد المسابقات الإبداعية
غنيّ عن القول أن الجوائز والمسابقات تؤدي دورًا هامًا في تحفيز الطاقات، واكتشاف المواهب، وتقدير الإنجازات، وهذا ما تمخضت عنه المسابقات الإبداعية في عُمان في مجالات كثيرة كالشعر والقصة القصيرة والفنون التشكيلية والبحوث العلمية. بيد أن الترجمة ظلت غائبة تمامًا عن هذه المسابقات حتى عهدٍ قريب، ليس بالضرورة لأن الجهات المعنية بهذه المسابقات لم تعتبر الترجمة ضربًا من الإبداع، ولكن ربما لأن الترجمة لم تكن فاعلة في المشهد الثقافي العماني بدرجةٍ تؤهلها للدخول في هذه المسابقات. ولكن بعد النشاط الترجمي الذي شهدته السلطنة في السنين القليلة الماضية بدأت الترجمة في أخذ مكانها بين المجالات الإبداعية الأخرى.

وكانت أول مسابقة تُطرح في الترجمة عام 2005 ضمن جائزة جامعة السلطان قابوس للإبداع الطلابي في مجال الترجمة الأدبية، كما أدرج المنتدى الأدبي عام 2008 مجال الترجمة الأدبية في مسابقته السنوية. أما المسابقة الأكبر فكانت جائزة النادي الثقافي في الترجمة (بإشراف أسرة الترجمة) والتي هدفت إلى تشجيع ترجمة الكتب في السلطنة من اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية إلى العربية. ولقد اتصفت هذه الجائزة بأربع سمات رئيسية ميزتها عن باقي المسابقات الترجمية: (1) عدم اقتصارها على الترجمة الأدبية، فهناك جائزتان إحداهما للنصوص الأدبية والثانية للنصوص الأخرى، (2) و عدم اقتصارها على اللغة الإنجليزية، (3) و خروجها من دائرة النصوص القصيرة إلى الكتب الكاملة، (4) و تشجيع الإنتاج الجديد، حيث يُشترط في الكتاب المترشح أن لا يكون قد طُبع سابقًا، وأن لا يكون مُترجمًا من قبل.

هذا من ناحية المسابقات الرسمية على المستوى الوطني، ولكن كانت هناك أيضًا مسابقات غير رسمية أو داخلية تستهدف طلاب الترجمة والمبتدئين فيها رغبة في تشجيعهم على ممارسة الترجمة واكتشاف مواهبهم فيها. وأول هذه المسابقات كانت "المسابقة الترجمية الشهرية" في "منتديات مجموعة الترجمة" على شبكة الإنترنت، حيث تقوم لجنة المسابقة باختيار ثلاثة نصوصٍ شهريًا ليترجمها المتسابقون، ومن ثم تُشكل لجنة من خمسة أعضاءٍ من المترجمين الخريجين لتقييم الترجمات. جديرٌ بالذكر أن المشاركة لم تكن مقصورة على أعضاء مجموعة الترجمة أو طلاب جامعة السلطان قابوس أو حتى المقيمين في السلطنة، بل كانت هناك مشاركات خارجية من المملكة العربية السعودية ومصر والجزائر. وكانت الجوائز عبارة عن مجموعةٍ من الكتب الثقافية المتنوعة تقدم لكل فائز. استمرت المسابقة من يناير 2007 وحتى فبراير 2008 ثم توقفت. أما المسابقة الثانية فتمت في كلية العلوم التطبيقية بصحار عام 2008 لدورةٍ واحدة، وقد تمت بالطريقة نفسها ولكن في حدود الكلية فقط. هذا وقد بدأ العمل على إنشاء مسابقة مماثلة في منتدى الترجمة بـ"شبكة عاشق عمان".

المشهد التعليمي/التأهيلي
لقد شهدت العقود الأخيرة الماضية تزايدًا كبيرًا في البرامج الأكاديمية لتدريب المترجمين في كل مكان في العالم، وبعد أن كان المترجمون يتلقون التدريب في كليات مهنية تمنح شهادات الدبلوم كحد أقصى، أصبح المترجمون يتدربون في الجامعات وفق مناهج موضوعة على أسس ونظريات علمية، ويحصلون على درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراة في الترجمة.

وفي عُمان تأخر وصول هذه البرامج، ربما لعدم إلحاح الحاجة إليها حتى عهدٍ قريب. فمنذ عام 1975 وحتى 2003 لم تكن في عُمان سوى مؤسسة واحدة تُعنى بتدريب المترجمين، وهي معهد "بوليغلوت" –الذي بدأ في تدريس الترجمة عام 1998 و ما يزال يقدّم دورات تدريبية في الترجمة- بالإضافة إلى أقسام اللغة الإنجليزية في الجامعات والكليات، والتي كانت تدرّس بعض مقررات الترجمة. ولكن الوضع قد تغيّر الآن، ففي خلال 4 سنوات فقط شهدت عمان طفرة تمثلت في ظهور 7 برامج ترجمة جامعية واحد منها على مستوى الماجستير: (1) بكالوريوس الترجمة بين العربية والإنجليزية في جامعة السلطان قابوس، (2) ماجستير الترجمة بين العربية والإنجليزية في جامعة السلطان قابوس، (3) بكالوريوس الترجمة بين العربية والإنجليزية في جامعة صحار، (4) بكالوريوس الترجمة بين العربية والإنجليزية في جامعة ظفار، (5) بكالوريوس الترجمة بين العربية والإنجليزية في جامعة نزوى، (6) بكالوريوس الترجمة بين العربية والفرنسية في جامعة نزوى، (7) بكالوريوس الترجمة بين العربية والألمانية في جامعة نزوى.

المشهد الأكاديمي والبحثي
عندما نتحدث عن الوضع الأكاديمي العماني في الترجمة فإننا نقصد به ثلاثة أمور: المؤسسات الأكاديمية المعنية بالترجمة، و الأساتذة الأكاديميين، و البحث في مجال الترجمة.

أما على مستوى المؤسسات، فلا توجد إلى الآن كلية أو معهد عال أو حتى قسمٌ خاص بالترجمة وحدها، وإنما برامجٌ دراسية تمنحها أقسام اللغات. ولا يعدّ ذلك أمرًا سلبيًا بالضرورة؛ فإنشاء مثل هذه المؤسسات والأقسام إنما يتم في حالة الحاجة إليها، والأعداد الملتحقة ببرامج الترجمة حتى الآن قليلة وقد لا تدلّ على حاجةٍ ملحة تستدعي إنشاء مؤسسات أو أقسام خاصة. ونحن إذ نعترف بذلك لا نعني استبعاد التفكير في الأمر أو التخطيط له، ولا نثبت عدم حاجة سوق العمل لمخرجات أكثر، وإنما ندعو إلى دراسات ميدانية تبحث في احتياجات السوق (المحلية والإقليمية) وتدرسُ إمكانية إنشاء معهد أو كلية تلبي هذه الاحتياجات.

أما عند النظر في أعضاء هيئة التدريس في برامج الترجمة الجامعية في عُمان، فإننا نلاحظ نُدرة الأساتذة العمانيين، واعتماد هذه البرامج على الأساتذة العرب والأجانب من ذوي الخبرة العملية والنظرية. ولكن هذا الوضع قد يتغير مستقبلا، إذ نجد أن عدد العمانيين الذين يقبلون على الدراسات العليا في مجال الترجمة بدأ يزداد، وربما ينتهي بهم المطاف مستقبلا في تدريس الترجمة في مؤسسات التعليم العالي.

وأما عن البحث العلمي في مجال الترجمة فهو مرتبط بطبيعة الحال بما ذكرناه في الفقرة السابقة، حيث أن الدراسات العمانية في الترجمة ما تزال قليلة جدًا. هذا فيما يتعلق بالبحوث المنشورة، أما ما يخص الندوات والمؤتمرات فنلاحظ اهتمامًا متزايدًا بالترجمة في السلطنة، وأبرز ما يتم في هذا الصدد "الندوة السنوية لمجموعة الترجمة" والتي تقيمها "مجموعة الترجمة" بجامعة السلطان قابوس ضمن فعاليات "أسبوع الترجمة" ويشارك فيها العديد من الباحثين في السلطنة، إضافة إلى دعوة متحدثين من خارج السلطنة. ونظرًا لكون هذه الندوة هي الوحيدة المتخصصة في الترجمة، فإنها تلقى إقبالا كبيرًا وتنافسًا على المشاركة، بغض النظر عن كون الجهة المنظمة مجموعة طلابية. وبالإضافة إلى هذه الندوة، فقد تم إدراج محور الترجمة في العديد من الندوات والمؤتمرات المحلية، كالمؤتمر الدولي لقسم اللغة الإنجليزية في جامعة السلطان قابوس عام 2007 وعام 2010، وندوة "حوار الحضارات والثقافات" التي انعقدت في نزوى عام 2006. أما الإنجاز الأكبر في هذا المجال فقد تمثل في استضافة السلطنة في ديسمبر 2009 للمؤتمر العربي الثالث للترجمة الذي تنظمه "المنظمة العربية للترجمة".

المشهد القانوني
كانت مزاولة مهنة الترجمة في عُمان غير مقيدة بأية شروط، وكان يحق لأي مواطن الحصول على ترخيص بتقديم خدمات الترجمة. وفي ظلّ ذلك دخل في هذه المهنة أفرادٌ ليسوا فقط غير متخصصين في الترجمة، بل غير أكفاء في أدائها، مما نتج عنه قلة الجودة في إنجاز الترجمات في العديد من هذه المكاتب.

ولحلّ هذه الإشكالية صدر المرسوم السلطاني رقم 18/2003 المتعلق بإصدار قانون لتنظيم مكاتب الترجمة القانونية (صفة القانونية هنا تعود على المكاتب)، وفق شروطٍ وأحكام تهدف إلى ضبط الجودة في مزاولة المهنة والحفاظ على أخلاقياتها. ومن أهم الشروط التي وردت في القانون أن لا تقل خبرة المترجم عن خمس سنوات في مجال الترجمة (يُستثنى من ذلك خريجو برامج الترجمة)، وأن يكتب المترجم اسمه ويوقّع على كل مستندٍ تمت ترجمته، وأن يؤدي الترجمة بأمانة ودقة دون تغيير مضمون المحتوى، وألا يفشي أية أسرار اطلع عليها أثناء مزاولة عمله. وفي ظل سياسة التعمين التي تتخذها السلطنة اشترط هذا القانون أن يكون صاحب المكتب عمانيّ الجنسية، أو أن يكون له شريك عماني. هذا وقد جاء القانون بعقوبات تصل إلى الحبس لمدة لا تزيد عن 3 سنوات والغرامة بمقدار لا يزيد عن 2000 ريال لمن يخالف أحكام هذا القانون، ومنها إذا "أهمل [المترجم] إهمالا جسيما في أعمال الترجمة التي عهد إليه بها أو تعمد من خلال الترجمة تغيير الحقيقة في المحرر إذا كان من شأن ذلك إلحاق ضرر بالمصلحة العامة أو بالغير...".

كلمة أخيرة
استعرضنا في الفقرات السابقة أهم الملامح الرئيسة لنشاط الترجمة في عُمان وتطورها في عصر النهضة العمانية الحديثة، ورأينا كيف أن هذه السيرة تحمل عددًا من المنجزات، في مقابل بعض الجوانب التي ما زالت تحتاج إلى تطوير.

فمن ناحية رأينا كيف أن فعل الترجمة قد تحوّل من الحالة الفردية أو الجهد المتفرق إلى العمل المؤسسي، وإن كان على مستويات بسيطة محدودة الموارد والقدرات، مما أكسبها (أي الترجمة) بروزًا وحضورًا أكبر في المجتمع العماني، كما يدلنا على ذلك ازدياد الترجمات المنشورة، والفعاليات الترجمية، ودخول الترجمة في المسابقات الإبداعية الوطنية، وإطلاق الملاحق والمنتديات الإلكترونية الترجمية المتخصصة، وذلك نادر على المستوى العربي. هذا ويتضح ازدياد الوعي الحكومي والمجتمعي بأهمية الترجمة، واستعداد المؤسسات المختلفة (من حيث المبدأ على الأقل) لدعم الترجمة ورعايتها.

ومن الناحية الأخرى يبدو لنا من معطيات الواقع أنّ هناك نقصًا في المشاركات الفردية التي يتطور بها العمل المؤسسي، وهذا ما يشير إليه توقف "أسرة الترجمة" وتعثر محاولات تأسيس جمعية وطنية للترجمة، وقلة المشاركات في المسابقات الترجمية بالمقارنة مع أعداد المترجمين العمانيين. كما لاحظنا تركيز الأفراد والمؤسسات في عُمان على ترجمة الكتب المتعلقة بعُمان، وندرة الاشتغال على إنجاز ترجمات علمية أو أدبية أو فكرية أخرى. ونحنُ إذ نتفهم هذا التركيز المتماشي مع توجه الباحثين العمانيين عمومًا إلى استقصاء كل ما يتعلق بهويتهم وتاريخهم تراثهم، إلا أننا في الوقت نفسه نرى أنه قد حان الوقتُ لموازنة النشاط الترجميّ وتوجيه جهوده إلى الإنتاج الإنساني المشترك. كما لا يفوتنا في نهاية هذا المقال أن نشير إلى أنّ المترجمين والاقتصاديين في عُمان لم يستفيدوا بعد من التطور الاقتصادي والسياحي والانفتاح في عُمان والخليج لتطبيق ما يُسمى بـ "صناعة الترجمة translation industry" من خلال إنشاء الشركات الكبيرة التي تتخصص في تقديم مختلف الخدمات اللغوية والترجمية (الشفوية والتحريرية والمرئية وغيرها) للسوق المحلية والإقليمية والعالمية، وهي صناعة مربحة ومفيدة للبلد وللمترجمين أيضًا.

الإحالات
1- عبدالله الحراصي، 2009، "الترجمة في عمان: من التواصل الحضاري نحو الصناعة"، ورقة أُلقيت في المؤتمر العربي الثالث للترجمة "صناعة الترجمة من المؤلف إلى المتلقي"، 12-13 ديسمبر 2009، مسقط-سلطنة عمان.
2- وفقًا لما تم إنجازه حتى الآن في قاعدة بيانات النصوص المترجمة في عُمان التي تعدّها أسرة الترجمة بالنادي الثقافي.
3- كتاب "ملاحظات في السينماتوغرافيا"، روبرت بريسون (1998)، ترجمة عبدالله حبيب، منشورات وزارة الثقافة السورية- دمشق.
4- كتاب "إعلام جديد..سياسة جديدة"، جون ألترمان (2003)، ترجمة عبدالله الكندي، دار الكتاب الجامعي-فلسطين. أما الكتب الأدبية فهي: "بين حنايا أضلعي"، نصرى العدوي (2004)، ترجمة مجموعة الترجمة بجامعة السلطان قابوس، المجموعة العمانية للسرطان-مسقط، و "مزرعة الحيوان"، جورج أورويل (2006)، ترجمة محمد عيد العريمي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت، و "نافذة على القصة القصيرة الفارسية الحديثة" (2008)، ترجمة د. إحسان صادق اللواتي، مجلس النشر العلمي بجامعة السلطان قابوس، و "لعبة اليانصيب: قصص من الأدب الأمريكي" (2008)، ترجمة مجموعة الترجمة العمانية، مؤسسة الانتشار العربي-بيروت، و "الساذجة: قصص من الأدب العالمي" (2008)، ترجمة مجموعة الترجمة العمانية، مؤسسة الانتشار العربي-بيروت.
5- أما الطالب (آنذاك) فهو كاتب هذه السطور، وأما المشرف فهو الدكتورعبدالله الحراصي.
6- انظر الإحالة رقم 4 أعلاه.

نحن في مدارس إسرائيل: عرض كتاب "صورة العرب والمسلمين في مدارس إسرائيل"



جرى في السنين الأخيرة نقاش طويل في أروقة الثقافة العربية حول ترجمة الأدب العبري، ومن الإيجابيات التي يذكرها مناصرو هذا التوجه معرفة كيف يفكر الإسرائيليون وكيف ينظرون إلينا نحن العرب. سواء اتفقنا على الوسيلة أم لم نتفق يبقى الهدف هامًا وضروريًا، ولكن ربما الأهم منه في السياق الأشمل للصراع العربي الإسرائيلي هو معرفة كيفية تربية الأجيال الجديدة والصورة التي يتم غرسها في أذهانهم عن العرب والمسلمين، حتى نستطيع تفسير السلوكيات الإسرائيلية فيما يتعلق بتعاملهم معنا. من أحدث الدراسات التي تناولت هذا الموضوع كتاب "صورة العرب والمسلمين في مدارس إسرائيل: تحليل المناهج الدراسية في التعليم العام" للدكتور علي بن صالح الخبتي، الصادر عن مكتبة العبيكان عام 2009 في 206 صفحات.

جاء الكتاب في شكل بحثٍ أكاديمي يشتمل على مقدمةٍ تشرح مسوّغات البحث وسياقه وأهدافه الرئيسة، وفصلٍ لشرح الإطار النظري الذي يرتكز عليه البحث، وفصلٍ عن ما نُشر سابقًا في هذا الموضوع حتى يستطيع القارئ وضع هذا الكتاب ضمن سياق تلك الدراسات، وفصل لمنهجية البحث، وفصلٍ طويل للتحليل، ثم خلاصة وتوصيات وملاحق للاستزادة. ومما تجدر الإشارة إليه نجاح المؤلف في استخدام لغةٍ بسيطةٍ مباشرة بعيدة عن تعقيدات الكثير من البحوث الأكاديمية. ويبدو أن المؤلف قد اختصر الحديث في المقدمة والإطار النظري والدراسات السابقة ووجّه تركيزه على التحليل مراعاة لكون الكتاب موجهًا للقارئ العام. ويعلن المؤلف في المقدمة أن العالم "[لا] يحتمل النزاعات والخلافات والحروب" (ص17) فإذا ما أردنا تجنب ذلك علينا النظر في كيفية تأسيس الناشئة في المدارس وتحليل المناهج الدراسية بغية تصفيتها من الصور السلبية للشعوب الأخرى حتى يسود السلام والتسامح في عالم "بلا حروب ولا كراهية" (ص19). ولقد اختار المؤلف المناهج الدراسية لتحليلها كونها تحتل أهمية قصوى في تشكيل ثقافة الجيل الجديد وتعريفه بالثقافات الأخرى وتحقيق أهداف المجتمع من خلال تأسيس القيم والأخلاق وعادات التفكير والنظرة للحياة.

خصص المؤلف الفصل الثاني للحديث عن مفهوم الصورة الذهنية (النمطية) وتحليل التعريفات التي قدمتها الدراسات السابقة، وتبيان خصائص الصورة الذهنية النمطية وآثارها على الفرد والمجتمع. وكما يوضّح المؤلف فإن الصورة الذهنية النمطية هي عبارة عن أحكام وانطباعات متوارثة أو جديدة يتبناها شخص أو مجتمع ما عن شخص أو مجتمع آخر، مما يؤثر على تقييمه له وطريقة تعامله معه. ومن أخطر مشكلات الصور الذهنية السلبية صعوبة تصحيحها واستبدالها، لأنها تكون قد ترسخت في الذهن منذ الصغر.

وأما الفصل الثالث فقد يكون من أكثر أجزاء الكتاب متعة وثراءً، حيث يستعرض فيه المؤلف الركائز التي تقوم عليها فلسفة التعليم في إسرائيل، مع سردٍ لسمات التربية في إسرائيل والنظام التعليمي الإسرائيلي. ويرى المؤلف أن الفلسفة التربوية اليهودية تستقي قِيَمها من أربعة مصادر هي الحركة الصهيونية والديانة اليهودية ودولة إسرائيل والحضارة الغربية. أما الصهيونية فتحث على إحياء الثقافة العبرية في وطن قومي لليهود، وأما اليهودية فتؤكد على أن المرجعية الأولى والأساسية لليهود هي في التوراة والتلمود وأن الدين اليهودي هو الذي يوحّد جميع اليهود في أمة واحدة، ولذلك يوجد اهتمام كبير بتدريس المواد الدينية. وأما دولة إسرائيل فيُستمدّ منها التشديد على أهمية الأرض واستزراعها واستصلاحها، وأما الحضارة الغربية فهي التي تؤخذ منها قيمة العلوم والتقانة والأساليب التعليمية الحديثة. ويشير المؤلف في هذا الفصل إلى الانقسام الحادث في النظام التعليمي الإسرائيلي بين الجانب الديني والجانب العلماني والذي يتجسد في وجود مدارس حكومية وأخرى حكومية دينية تركز بشكل أساسي على الشعائر والطقوس الدينية. ومن المثير أن نجد كيف أن نظام التربية الإسرائيلي يرتكز على مبادئ تكفل استمرار الوجود اليهودي، وهي إحياء اللغة العبرية، وتعزيز الارتباط بالأرض (من خلال التعليم الزراعي، إضافة إلى وجود القسم الزراعي في الثانوية)، وتنمية الروح العسكرية (ص 49-50). وفي القسم الأخير من هذا الفصل الثري يستعرض المؤلف بعض القوانين المتعلقة بالتعليم وأهداف المراحل التعليمية المختلفة، ونلمس فيه اهتمامًا كبيرًا بالتعليم والتنشئة ورعاية المواهب وزيادة الإنفاق على التعليم (6.7% من الناتج القومي الإجمالي). ومن أهم الملاحظات التي نسجلها في هذا الفصل أن متوسط الساعات التي يدرسها الطالب الإسرائيلي في المرحلة الثانوية هو 58 ساعة أسبوعيًا!

وفي الفصل السادس من الكتاب يقوم المؤلف بتحليل مضمون 23 كتابًا دراسيًا إسرائيليًا وخطابها للخروج برؤية واضحة عن الصورة التي تعرضها للعرب والمسلمين وفق خمسة محاور هي البعد الإسلامي والبعد القومي والبعد الصهيوني والبعد السياسي والنظرة العامة للكتب. ومن بين نتائج الدراسة أن الكتب الدراسية الإسرائيلية قامت بما يلي: (1) الربط بين الإسلام والعنف على أساس أنه انتشر بالسيف عبر "احتلال" (فتح) بلاد الكفار أي غير المسلمين، كما عرضت شخصية النبي (ص) على أنه هو من فرض الدين الإسلامي وأسس قواعده بتأثير من اليهودية والنصرانية وأن الإسراء والمعراج مجرد أسطورة خرافية، كما رسخت فكرة عدم قدسية القرآن لأنه ليس من عند الله وإنه مستوحى من التوراة ويضم نبوءات محمد (ص) ورؤاه، وأكدت على أن أركان الإسلام إنما وُضعت بعد وفاة النبي (ص)، وربطت بين الجهاد والإرهاب. (2) تغيير الحقائق التاريخية والجغرافية على أساس ما ورد في التوراة وما تؤمن به الحركة الصهيونية وذلك من خلال وضع دولة إسرائيل في خارطة الشرق الأوسط مستخدمة هذا المصطلح الجديد حتى عند الحديث عن أحداث تاريخية قديمة جدًا. (3) وضع خريطة جديدة لفلسطين تتناسب مع الفكر الصهيوني وذلك بتهويد المكان والزمان حيث تظهر المدن والقرى بأسمائها العبرية في التوراة وفي الكيان الإسرائيلي، إضافة إلى التأكيد على وجود اليهود الدائم في فلسطين، وأن اليهود كلهم أمة واحدة وأنهم يستحقون هذه الأرض الموعودة وأنهم طالما ارتبطوا بها عاطفيًا وتمنوا الرجوع إليها حتى وهم في الشتات، وأن اليهود شعب متميز متفوق طالما استعانت به الأمم الأخرى لذكائه وثقافته ومهارته وأن اليهود في خير طالما اعتزلوا الأمم الأخرى ولم يتأثروا بها لأنهم دائمًا ما يعادونهم ويودون إبادتهم لمجرد يهوديتهم، وأنهم كان لا بد أن يعودوا يومًا لفلسطين وعادوا وشاركوا في تحريرها واستحقوا أن يؤسسوا دولة فيها. (4) التشديد على أهمية القدس والهيكل تاريخيًا لليهود، وإظهار الفخر بقدماء اليهود ودورهم عبر التاريخ حتى في فتح الأندلس، وتشويه صورة العربي كي يبدو عنيفا وقاتلا، وإظهار فلسطين أرضًا قفرا خربة لا شعب فيها ولم تزدهر إلا بإحياء اليهود إياها بعد عودتهم، ووصف المقاومة الفلسطينية بالتطرف والإرهاب. (5) سوء تصوير الإسلام وأركانه ونبيه، والتأكيد على أن مقاومة المشروع الصهيوني إرهاب ومعاداة للسامية، ووصف المشروع الصهيوني على أنه كفاح وتحرير للأرض وحرب للاستقلال دون ذكر لأعمال العنف التي ارتكبتها العصابات الصهيونية المسلحة قبل عام 1948.

لقد خلص المؤلف من بحثه وتحليله إلى نتائج مثيرة جديرة بالانتباه، وما قدّمه من توصيات يجدر النظر إليها جديًا ليس في السياق الإسرائيلي فقط وإنما في كل العالم، إلا أن هناك بعض الملاحظات التي نأخذها على الكتاب. أولا: وجود بعض الاستنتاجات التي لا توجد عليها أمثلة كافية أو متوافقة من الكتب الدراسية، مما يثير سؤالا هل الخطأ في الاستنتاج أم في إيراد المثال؟ مثلا يقول المؤلف في الصفحة 103 أن الكتب الدراسية "تهدف إلى ترسيخ أفكار تتعلق بعدم قدسية القرآن الكريم؛ لأنه من نسج خيال محمد (ص)، واعتماده في جزء كبير منه على ما ورد في الكتب الدينية اليهودية"، ثم يورد الاقتباس التالي من أحد الكتب الدراسية ليؤكد ذلك: "الكتاب المقدس للمسلمين هو القرآن، وتسير حياتهم حسبه. وحسب التراث الإسلامي فقد وضع الله القرآن ونزّل من السماء إلى محمد أجزاء. وقد أبلغ محمد كلام الله إلى المؤمنين به في صورة مقولات صغيرة، التي دونوها على أوراق النخيل والقطع الخشبية والعظام" (واضح أن الاستدلال غير مسوّغ). ثانيًا: في خلاصة التحليل يورد المؤلف بعض الاستنتاجات التي لم يتناولها أبدًا في التحليل، ولا يعرف القارئ من أين أتت، مثل "التأكيد على عدم احترام حقوق المرأة ووحشية وعربدة الرجل العربي والمسلم" (ص165). ثالثا: هناك بعض "الاستنتاجات" التي تظهر استغراب المؤلف وانفعاله، إلا أنها لا تمثل جديدًا بل هي من ضرب "المعلوم"؛ كأن ينفي اليهود نبوة النبي محمد (ص) أو ينكرون كون القرآن وحيًا من عند الله، فهم لو آمنوا بذلك أصبحوا مسلمين لا يهود! رابعًا: على الرغم من صدور الكتاب في عام 2009، إلا أن البحث ليس جديدًا حيث مرت عليه حوالي 6 سنوات، مما يحث على النظر في الكتب الأحدث ومقارنتها بتلك التي تم تحليلها. خامسًا: يذكر المؤلف أن هناك مترجمَين قاما بترجمة النصوص العبرية، ولا يعرف القارئ ما إذا كان المؤلف نفسه يعرف العبرية أم لا، مما قد يثير تساؤلا حول الترجمة ودقتها وحياديتها، ولكن في الوقت نفسه يجب أن نحسب للمؤلف وضعه النص العبري إلى جانب الترجمة العربية لمن أراد المقارنة والتثبت. وأخيرًا نسجل ملاحظة على اللغة المستخدمة في الكتاب والتي تبدو في بعض المواضع عاطفية غير حيادية، وهذا لا يتماشى مع بحثٍ أكاديمي.

الأربعاء، 3 مارس 2010

أفغانستان من الداخل: عرض كتاب "بائع الكتب في كابول"



من تبعات الغزو الأمريكي لأفغانستان في 2001 ونجاحه في إسقاط نظام "طالبان" أن تكوّن اهتمامٌ عالمي بهذه البقعة من الكرة الأرضية، بتاريخها وتراثها وتقاليدها ونظامها الاجتماعي، إضافة إلى الوضع السياسي بعد الحرب بطبيعة الحال. وفي الحقيقة فإن هذا الظرف المؤسف لأفغانستان كان فرصة سانحة لمن أراد أن يكتب كتابًا يحقق أعلى المبيعات عالميًا، وهذا ما حصل فعلا، فظهرت كتب كثيرة تتناول أفغانستان تاريخًا وحاضرًا وتكهنًا بالمستقبل. ومن بينها كتابٌ بعنوان "بائع الكتب في كابول"، صدر عام 2003 في النرويج واعتلى قائمة أفضل الكتب غير الأدبية مبيعًا في تاريخ النرويج، وتُرجم إلى الإنجليزية عام 2004 وغدا واحدًا من أفضل الكتب مبيعًا في العالم. نتناول هنا النسخة العربية الصادرة عام 2009 عن الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، بترجمة حليم نصر.

أما مؤلفة الكتاب فهي (آسني سييرستاد)، صحفية نرويجية نشيطة ومغامرة، عملت مراسلة في العديد من المناطق الملتهبة كالعراق والشيشان وأفغانستان، وعُرفت في بلدها بتقاريرها الإخبارية من العراق بعد سقوط بغداد. صدرت لها حتى الآن أربعة كتب تتناول توثيقًا لمشاهداتها في صربيا وكابول وبغداد والشيشان. أما الكتاب الذي نحن بصدده، فقد تميّز بفكرةٍ إبداعية خارجة عن المألوف في الكتابة الصحفية، ويُعتبر تجربة فريدة ودرسًا صحافيًا مميزًا. فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وغزو أفغانستان، ذهبت المؤلفة إلى هناك مع قوات التحالف الشمالي تسجّل ملاحظاتها ومشاهداتها، إلا أنها لم تكتفِ بهذا الدور الصحافي التقليدي، وفكّرت في الكتابة عن المجتمع الأفغاني من الداخل: أسلوب الحياة، والعادات والممارسات والأفكار والتقاليد. جاءتها هذه الفكرة بعد أن التقت صاحب مكتبة اسمه "سلطان خان" وتعرفت إلى أسرته، فعرضت عليه أن تقيم في منزله مع عائلته كي تستطيع الكتابة من واقع الحياة عن المجتمع الأفغاني. وهكذا أمضت المؤلفة ثلاثة شهور في منزل "سلطان خان" ترى وتسمع من أهل البيت عن حاضرهم وماضيهم.

وأما جمالية الكتاب وصفته الإبداعية فتتجسد في أن المؤلفة اختارت قالبًا روائيًا تحكي فيه قصة عائلة سلطان خان، وهذا القالب قد منحها القدرة كساردة على الغوص في دواخل الشخصيات وتتبع تطورها وأفكارها ودوافعها. إضافة إلى ذلك، فقد اختارت المؤلفة أن تخصص كل فصلٍ لشخصيةٍ من الشخصيات ودورها في القصة، بدلا من سرد الوقائع بالترتيب الزمني، مما ساعد في تسليط الضوء على تفاعل الشخصيات وصراعها مع بعضها أو مع الآخرين. يبدأ الكتاب بفصل تمهيدي تحكي فيه المؤلفة مجيئها إلى كابول ولقاءها ببائع الكتب، وفكرة الكتاب الذي بين يدي القارئ. وهنا تختفي المؤلفة ولا نجدها أبدًا في بقية الفصول، وتتحول إلى مجرد صوت سارد يحكي في كل فصل جانبًا من شخصيةٍ من عائلة سلطان خان باستثناء فصلين اثنين نجد فيهما معلومات عن الخلفية الاجتماعية والسياسية التي تجري فيها الأحداث. وينتهي الكتاب بخاتمةٍ تعود فيها المؤلفة لتقول لنا ماذا حدث للشخصيات بعد رحيلها من كابول.

نتعرف في هذا الكتاب إلى قصة سلطان خان بائع الكتب الذي نذر نفسه للحفاظ على تراث بلاده وآدابها، وتوفير الكتب التاريخية والأدبية للافغان عبر عقودٍ طويلة وأنظمة سياسية وحروب مرّت بها أفغانستان من العهد الملكي، إلى الاحتلال السوفييتي، إلى الحرب الأهلية، إلى طالبان فالغزو الأمريكي. وسلطان خان هذا شخصية فريدة من نوعها، فنجده ليبراليًا جدًا منفتحًا على جميع الأطياف يؤمن بحق الجميع في نشر أفكارهم، فلا يجد غضاضة في بيع الكتب الشيوعية، ومنشورات المجاهدين، وكتب طالبان، رغم أنه عانى منهم جميعًا: "أقدم الشيوعيون على إحراق كتبي، ثم جاء المجاهدون بعد ذلك لتخريب المكتبة ونهبها، وأخيرًا أكملت جماعة طالبان إحراق ما تبقى مرة جديدة" (ص8). أما في بيته فسلطان خان ديكتاتوري متسلط، رغباته لا تقبل النقاش، ومن يعصي أوامره يُطرد من نعيمه. بعد عشرته الطويلة مع زوجته (شريفة) يتزوج وهو فوق الخمسين من فتاة في السادسة عشر، ويقرر إبعاد الزوجة الأولى إلى باكستان حتى إشعار آخر. هذا الرجل العصامي المكافح، والقاسي جدًا في أحيان أخرى يمكن أن يوصف في بيت شعر يحبه هو كثيرًا للفردوسي: "ومن أجل أن تعيش/ينبغي عليك/أن تكون/في بعض الأحيان ذئبًا/وأن تكون شاةً/في بعضها الآخر" (ص46).

ونتعرف في الكتاب إلى (منصور) ابن سلطان الذي يعمل في مكتبة ابيه رغمًا عنه ويتمنى أن يعيش حياته بعيدًا عن سلطة أبيه، و(ليلى) الأخت الصغرى لسلطان والتي تعمل في البيت مثل الخادمة لا تتوقف أبدًا، تتمنى الخلاص من حياة العبودية هذه إما بالحصول على وظيفة أو بالزواج من شخصٍ لا يكرر لها مأساتها. أما (إيمال) فهو أصغر أبناء سلطان يبلغ من العمر 12 عامًا، ويعمل اثنتي عشرة ساعة يوميًا طوال الأسبوع في "كشك" صغير في أحد الفنادق، محرومًا من المدرسة، ومن اللعب، ومن الرفاق. وإضافة إلى هذه الشخصيات هناك (بيبي غول) والدة سلطان العجوز، وإخوة سلطان العديدين.

لا بد لنا من الاعتراف للمؤلفة بنجاح الكتاب في تحقيق واحدٍ من أهم أهدافه، وهو تصوير المجتمع من الداخل، حيث نقلت إلينا (آسني سييرستاد) تفاصيل خاصة ومفصلة للعديد من الممارسات الاجتماعية المتعلقة بالخطوبة، وحفل الزفاف، والنميمة النسويّة، والتسوّق، وارتياد الحمّام العمومي، والتقاليد المتبعة في الملابس، وغير ذلك. ولا شك في أن المؤلفة استفادت من ميزة كونها أنثى، تستطيع التغلغل في الجانب النسوي من المجتمع الأفغاني، وهو ما لا يتوفر للصحافي أو الباحث من الرجال. واستطاعت المؤلفة بعد ارتدائها برقع العباءة الأفغاني من الوصول إلى الجانب الرجالي أيضًا في المزار الديني والسوق والمدارس ورحلات العمل إلى بيشاور ولاهور.

أما التركيز الأكبر في الكتاب فكان منصبًا على قضية الظلم الاجتماعي الواقع على المستضعفين في المجتمع، أي النساء والأبناء المكتوب عليهم طاعة الأب، ولعل الكفة هنا ترجح للنساء، حيث تخصص الكاتبة جزءًا كبيرًا من الكتاب للحديث عن معاناة النساء في المجتمع الأفغاني. نجد في الكتاب أن الافغانيات محرومات من حرية الاختيار في كل شيء، وأنهن تابعات للرجال، وأنهن كالسلع تُباع وتُشترى باسم الزواج، هذا إلى جانب القيود العديدة المفروضة عليهن في الملبس والحركة. ولا يفوت الكاتبة أن تخصص فصلا تتحدث فيه عن الحب المحرّم على الأفغانيات، وكيف أن ما يبقى من قصص الحب هذه هو الانتحار والأغاني الشعبية المتداولة. وتتبدى ثيمة الظلم على المرأة جلية في شريفة التي يتزوج عليها سلطان دون سبب، و ليلى التي لا تستطيع أن تختار من تريد زوجًا لها أو ترفض من لا تريد، وسليقة التي يعاقبها أهلها بشدة لأنها تبادلت بعض الرسائل مع شاب. ومن الناحية الأخرى تسلط الكاتبة الضوء على ابني سلطان (منصور) و (إيمال) الذين يسخّرهما أبوهما للعمل حارمًا إياهما من الدراسة ومن الاستمتاع بالحياة.

لا شك في أن كتابًا بهذه المواصفات يفترض تقديم الحقيقة وكشف المستور في المجتمع الأفغاني لا بدّ أن يحقق نجاحًا باهرًا، إلا أن هناك بعض الأسئلة الأساسية التي تفرض نفسها هنا. أولا، هل قالت آسني سييرستاد الحقيقة كلها؟ سؤال أجاب عليه بائع الكتب نفسه محمد شاه رايس (أي سلطان خان في الكتاب) بعد أن قرأ الترجمة الإنجليزية للكتاب، فرفع قضية في النرويج ضد المؤلفة متهمًا إياها بتشويه سمعته هو وعائلته، مكذبًا الكثير مما جاء في الكتاب وغاضبًا من خيانة المؤلفة لحسن الضيافة. صحيحٌ أن الأسماء الواردة في الكتاب مستعارة، ولكن بائع الكتب هذا شخصية معروفة في كابول ومن يعرف كابول سيعرف أن الكتاب يتحدث عن شاه رايس. هذا وقد نشر شاه كتابًا يحكي فيه "القصة الحقيقية" ويرد به على "افتراءات" المؤلفة، سمّاه "كان يا ما كان بائع كتب في كابول"، وتُرجم إلى النرويجية والبرتغالية. أما السؤال الثاني فيتعلق بمسألة أخلاقيات البحث والآثار المترتبة على قول "الحقيقة". يقول شاه بأنه تلقى العديد من الرسائل المهينة والتهديدات والمضايقات، مما دفعه إلى طلب اللجوء في أوروبا، في حين سافرت زوجته الأولى وبناته إلى كندا حيث إخوتها. من جهةٍ أخرى، قد يكون هذا الكتاب "الانتقائي" تقديمًا للمجتمع الأفغاني إلى الملايين من الناس حول العالم الذين لا يعرفون الكثير عن أفغانستان، فهل يصلح الكتاب هذا لهذا الدور، خاصة وأن الكاتبة تعترف بأن الكتاب "قصة عائلة أفغانية واحدة، وهنالك ملايين من العائلات. ولم تكن عائلتي هذه بأي حال من الأحوال لتعتبر عائلة نموذجية" (ص15). وأما السؤال الثالث فهو: هل تكفي المدة التي قضتها المؤلفة في أفغانستان لتفهم كل ما سجّلته من مشاهدات، أو لتعرف ما يكفي من تفاصيل المجتمع الأفغاني المعقد المتشابك اجتماعيا وسياسيا؟ إن قرار المؤلفة بالكتابة عن هذه العائلة فقط جعلها تركز على قضية المرأة وتهمل قضايا أساسية أخرى من أهمها التمييز العرقي في أفغانستان (رغم وجود إشارات هنا وهناك).

باختصار، نقول إن مشروع المؤلفة رغم فرادته وسلاسة سرده متسرعٌ وغير ناضج، وربما مُحمّل مسبقًا بنظرة استشراقية لأفغانستان. هذا ولم تستطع المؤلفة استغلال الميزات التي أعطيت لها في تصوير المجتمع الأفغاني بشكلٍ أكثر شمولية وتفصيلا، مثلما فعل الكاتب الأفغاني مثلا (خالد حسيني) في روايتيه "عدّاء الطائرة الورقية" و "ألف شمس مشرقة".