الثلاثاء، 13 مايو 2003

الميراث


قصة: فيرجينيا وولف
ترجمة: أحمد حسن المعيني


" إلى سيسي ميلر".

بينما كان جيلبرت كلاندون يلتقط بروش(1) اللؤلؤ القابع بين مجموعة خواتم وبروشات فوق طاولةٍ صغيرة في صالون زوجته، قرأ فوقه ورقةً جاء فيها: " إلى سيسي ميلر، مع محبتي". لم يكن غريبًا أن تذكر أنجيلا حتى سكرتيرتها سيسي ميلر، إلا أنه حينما فكر في الأمر ثانيةً بدا له الأمر غريبًا كيف تركت كل شيءٍ بعدها وفق تنظيمٍ لم تلمسه يد النسيان أو السهو. لم تدع أحدًا من أصدقائها إلا وتركت له هديةً صغيرة. بدا الأمر وكأنها قد تنبأت بموتها. ولكنها كانت في أفضل حالٍ عندما خرجت ذلك الصباح منذ ستة أسابيع، ووثبت من فوق ناصية الرصيف في (بيكاديلي)، ودهستها السيارة.

كان في انتظار سيسي ميلر بعد أن طلب منها الحضور. لقد شعر بأنه، وبعد كل تلك السنين التي قضتها معهم، مدينٌ لها بشيءٍ من التقدير في هدية كهذه. سبح في تفكيره مجددًا وهو ينتظر. نعم لقد كان الأمر غريبًا أن تترك أنجيلا كل شيءٍ هكذا مرتبًا. كل صديقٍ له تذكار يعكس مشاعرها. كل خاتمٍ، كل عقدٍ، وكل صندوقٍ صيني- فلقد كانت مولعة بالصناديق الصغيرة- عليه اسمٌ ما. كانت لكل هديةٍ ذكرى في عقله. لقد أهداها هذا الدولفين المرصع بعينين من الياقوت. لمحته ذات يومٍ في أحد شوارع (البندقية) العتيقة واندفعت نحوه. كان ما يزال يتذكر صيحة إعجابها وسعادتها بتلك الهدية. أما هو، بالطبع لم تترك له شيئًا محددًا، باستثناء مذكراتها. خمسة عشر دفترًا لها غلافٌ من جلدٍ أخضر، تسكن فوق مكتبها خلفه مباشرة. كانت تكتب مذكراتها منذ زواجهما. احتوت هذه المذكرات على تلك التي لا يستطيع تسميتها مشاجرات، بل خلافاتٍ بسيطة. وكلما دخل عليها وهي تكتب كانت تغلق دفترها أو تغطيه بيديها. بإمكانه الآن سماع صوتها تقول: " لا، لا، لا. ربما بعد موتي". وهكذا فقد كانت هذه المذكرات هي ميراثه الوحيد منها. كانت الشيء الوحيد الذي لم يشاركها إياه في حياتها. ولكنه كان يؤمن دائمًا بأنها ستعمّر أكثر منه. يا ليتها توقفت للحظةٍ واحدة وفكرت فيما تفعله، لكانت حيةً الآن. ولكنها وثبت من فوق ناصية الرصيف كما قال سائق السيارة في التحقيق. لم تترك له فرصةً ليكبح جماح السيارة. ..ها هي أصواتٌ في القاعة تقطع عليه أفكاره. أقبلت الخادمة تقول: "الآنسة سيسي ميلر يا سيدي". دخلت. لم يرها وحدها أبدًا في حياته، ولا بالطبع في دموعها. كانت منهارة، ولا عجب في ذلك. لقد كانت أنجيلا بالنسبة لها أكثر من صاحبة عمل. لقد كانت صديقة. وفكّر بينه وبين نفسه وهو يدفع لها بمقعدٍ تجلس عليه، أنه لم يكن هناك ما يميزها عن غيرها من مثيلاتها من النساء. كانت هناك آلافٌ من سيسي ميلر. نساءٌ رتيبات صغيرات الحجم متشحات بالسواد يحملن حافظة أوراق. ولكن أنجيلا بروح الانسجام التي لديها اكتشفت جميع أنواع المميزات والخصال الجيدة في سيسي ميلر. كانت تشعّ فطنةً وحصافة، هادئة وجديرة بالثقة، بحيث يمكن للمرء أن يخبرها بأي شيء. لم تستطع الآنسة سيسي ميلر التحدث في البداية. جلست هناك تمسح عينيها بمنديلٍ لها. ثم حاولت التحدث قائلةً: "اعذرني يا سيد كلاندون". فتمتم بكلماتٍ قليلة. لقد تفهّم الموقف بالطبع. كان شيئًا طبيعيًا. وكان يستطيع تصور كم كانت زوجته تعني لهذه الآنسة.

قالت وهي تدور بعينيها: "لطالما كنتُ سعيدةً هنا". وجّهت عيناها على المكتب وراءه. كان ذلك المكان الذي عملتا فيه معًا، هي وأنجيلا.

كان لأنجيلا نصيبٌ من الواجبات التي تُلقى على زوجة رجلٍ سياسي بارز. كانت تساعده كثيرًا في عمله.

لطالما كان يراها مع سيسي جالستين على ذلك المكتب، سيسي على الآلة الكاتبة تطبع رسائل كانت تمليها عليها أنجيلا. بلا شك كانت الآنسة سيسي ميلر تفكر في الشيء ذاته. كل ما عليه أن يفعله الآن هو أن يعطيها ذلك البروش الذي تركته زوجته لها. بدت الهدية غير مناسبة. كان من الأفضل لو أنها تركت لها مبلغًا من المال، أو الآلة الكاتبة على الأقل. ولكن هذه هي الهدية كما تقول الورقة الملصقة عليها: "إلى سيسي ميلر، مع محبتي". أعطاها البروش مع كلماتٍ قليلة أعدها مسبقًا. قال إنه يعلم بأنها ستجد في الهدية قيمةً كبيرة. لطالما كانت زوجته تلبس هذا البروش...فردّت وهي تأخذ البروش ردًا بدا وكأنها هي أيضًا قد أعدت كلامًا مسبقًا تبين فيه أن الهدية بالنسبة لها كنزٌ لا يقدر بثمن... تصوّر أن لديها ملابس لا يبدو معها هذا البروش غير مناسب. كانت ترتدي معطفًا أسود وتنورة، يبدوان وكأنهما الزي الرسمي لعملها. ثم تذكر أنها في حداد. كانت لها مأساتها أيضًا، فقد توفي أخوها الذي كانت متعلقة به قبل أسبوعٍ أو اثنين من وفاة أنجيلا.

هل تُوفي في حادث؟ لا يستطيع تذكر إلا ما قالته له أنجيلا. أنجيلا بروحها التي تفيض عاطفةً كانت شديدة الحزن. وفي غمرة تفكيره، نهضت سيسي ميلر وارتدت قفازيها. كان من الواضح أنها شعرت بأنها لا يجب أن تثقل عليه أكثر من ذلك. ولكنه لم يستطع أن يتركها تغادر دون أن يسألها عما ستفعله. ماذا كانت تعد للمستقبل؟ هل باستطاعته مساعدتها؟ كانت تحدق في المكتب، حيث كانت تجلس أمام الآلة الكاتبة، في المكان الذي تقبع فيه المذكرات. ولأنها كانت تائهة في ذكرياتها مع أنجيلا، لم تجب عن أسئلته. بدت للحظةٍ وكأنها لم تفهم ما قاله. فأعاد سؤاله: "ما خططك للمستقبل يا آنسة سيسي؟". فتعجبت وقالت: " خططي؟ لا عليك يا سيد كلاندون. لا تشغل نفسك بأمري". فهم من ردها أنها كانت تعني عدم حاجتها لمساعدةٍ مالية، فاكتشف أنه كان من الأفضل أن يكتب اقتراحه ذاك على ورقةٍ كي لا يحرجها. كل ما كان بوسعه فعله الآن هو أن يقول وهو يشدّ على يدها: "تذكري جيدًا يا آنسة سيسي. لو احتجتِ إلى أي نوعٍ من المساعدة، سأكون سعيدًا..." ثم فتح الباب. وللحظةٍ على عتبة الباب وقفت وكأن فكرةً ما خطرت ببالها. قالت وهي تنظر إليه في عينيه للمرة الأولى، وللمرة الأولى أدهشه ذلك التعبير في وجهها، فجعله يتعاطف معها ولكن أيضًا يبحث في عينيها: "سيد كلاندون..في أي وقتٍ.. إن كان هناك شيءٌ ما أستطيع فعله لمساعدتك، تذكر أنني سأكون سعيدةً بذلك.. من أجل زوجتك...".

وبهذه العبارة غادرت. لم يكن يتوقع منها تلك الكلمات ولا تلك النظرة. كأنها كانت متأكدة، أو تأمل أن يحتاج إليها. وقفزت إلى ذهنه فكرةٌ غريبة وجميلة وهو يعود إلى مقعده. هل كان من الممكن خلال كل تلك السنين التي نادرًا ما لاحظها فيها، أن يكون قد شغفها حبًا؟ والتقط ردًا على فكرته تلك بينما كان يمر من أمام المرآة. كان عمره يربو على الخمسين، ولكنه لم يستطع إلا أن يعترف بأنه ما زال رجلاً جذابًا.

قال ضاحكًا: "المسكينة سيسي ميلر". كان يودّ أن يشارك زوجته تلك الضحكة! وبلا شعورٍ توجّه نحو دفترٍ من مذكراتها. فتح الدفتر عشوائيًا وقرأ: "كان شكل جيلبرت رائعًا...". بدا الأمر وكأنها تجيب على سؤاله. بالطبع كانت تبدو وكأنها تقول إن لك جاذبية بين النساء. بلا شك شعرت سيسي ميلر بالشيء ذاته. وتابع القراءة:" كم أنا فخورةٌ أن أكون زوجته!". وكم كان هو فخورًا أن يكون زوجها. طالما كان ينظر إليها عندما يخرجان معًا لتناول العشاء ويقول لنفسه بأنها المرأة الأروع في ذلك المكان!

وتابع القراءة. كانت تلك السنة التي رشّح فيها نفسه لعضوية البرلمان. ذلك العام قاما بجولةٍ معا في منطقته. "وعندما جلس جيلبرت صفق الحضور بحرارة. نهضوا جميعًا وأنشدوا: يا أروع الرجال(2). تلك اللحظة لم أتمالك مشاعري من فرط السعادة". تذكر هو ذلك أيضًا. كانت تجلس على المنصة بجانبه. ما يزال يرى تلك النظرة، وكيف كانت الدموع تتلألأ في عينيها. وبعدها؟ قلّب الصفحات. ذهبا إلى (البندقية). تذكّر تلك الإجازة بعد الانتخابات. " كان الثلجٌ يتساقط في فلوريانز(3)". وابتسم، فقد كانت كالطفلة يبهرها الثلج. "أعطاني جيلبرت نبذةً رائعة عن تاريخ (البندقية). أخبرني بأن الأدواج (4)...". كتبت ذلك كله بخطّ تلميذةٍ في المدرسة. من أروع الأشياء في السفر مع أنجيلا أنها كانت تواقة جدًا للتعلم. لطالما كانت تقول بأنها تجهل الكثير، وكأن ذلك لم يكن من أسرار سحرها. فتح الدفتر الثاني. عادا إلى (لندن) بعد ذلك. " كان يهمني كثيرًا أن أبدو رائعة، ولذلك ارتديتُ فستان زفافي". كان يمكنه الآن رؤيتها وهي جالسة بالقرب من السير إدوارد العجوز، وهي تصرع رئيسه، ذلك العجوز المرعب. قرأ بعشوائية، مشهدًا تلو الآخر من مقتطفاتها. "وتناولنا العشاء في مجلس العموم...إلى أمسيةٍ في منزل لافجروفز. سألتني السيدة (ل) هل اكتشفتُ حجم المسؤولية على عاتقي كوني زوجة جيلبرت؟". وأخذ دفترًا آخر من على المكتب. وبعد مضيّ السنين أصبح منهمكًا جدًا في عمله. وكانت هي بالطبع في كثيرٍ من الأحيان وحيدة. ولقد كان بيّنًا كم يحزنها أن لا أطفال لهما. وقرأ في صفحة المذكرات: " كم أتمنى أن يكون لجيلبرت ولد". ومن الغريب أنه هو نفسه لم يتحسر كثيرًا على ذلك. كانت حياته مليئة بالعمل. في ذلك العام شغل وظيفةً بسيطة في الحكومة. مجرد وظيفةٍ بسيطة، ولكن تعليقها كان:" إنني متيقنةٌ من أنه سيصبح رئيسًا للوزراء". في الحقيقة، لو سارت الأمور على نحوٍ مختلف، لكان من الممكن أن يحدث ذلك. وتوقف هنا ليفكر فيما كان يمكن أن يحدث. كانت السياسة مقامرة ، ولكن اللعبة لم تنته بعد، ليس في سن الخمسين. ألقى ناظريه بشكلٍ عشوائي في صفحاتٍ أخرى مليئة بأحداثٍ هامشية، أحداثٍ غير مهمة ولكنها مبهجة. تلك الأحداث اليومية التي كوّنت حياتها.

أخذ دفترًا آخر وفتحه بشكلٍ عشوائي. " كم أنا جبانة! لقد تركتُ الفرصة تضيع من يدي.ّ ولكن من الأنانية أن أزعجه بشؤوني بينما كان لديه الكثير ليشغله. وكم كان من النادر أن نقضي أمسيةً ما بمفردنا". ما معنى ذلك؟ أوه، ها هو التفسير. إنها تشير إلى عملها في (إيست إند). " استجمعتُ شجاعتي وتحدثت إلى جيلبرت أخيرًا. كان لطيفًا للغاية، ولم يعارض أبداً". تذكّر تلك المحادثة. أخبرته بأنها تشعر بالكسل وبأنها بلا قيمة. كانت تتمنى أن تعمل. أرادت أن تعمل. تذكّر كيف احمرّت وجنتاها على نحوٍ فتّان وهي جالسة على ذلك المقعد، تخبره أنها تود مساعدة الآخرين. مازحها قليلاً مستغربًا ما إذا كانت غير سعيدةٍ برعاية شؤونه وشؤون بيته. ولكنه لم يمانع بالطبع إن كان العمل سيسعدها. وماذا في عملها؟ تعمل في مقاطعةٍ ما ؟ لجنةٍ ما؟ المهم أن تعده بأنها لن ترهق نفسها. ويبدو أنها في ذلك الأربعاء ذهبت إلى (وايتشابل). تذكّر كيف لم ترق له تلك الملابس التي كانت ترتديها عندما تذهب لعملها. ولكن يبدو أنها كانت تأخذ الأمر مأخذ الجد. كان دفتر المذكرات مليئاً بإشارات مثل: "رأيتُ السيدة جونز...لديها عشرة أطفال...فقد زوجها ذراعه في حادث...فعلتُ ما بوسعي لكي أجد عملاً من أجل ليلي". وقلّب الصفحات. بدأ ذكر اسمه يتناقص، وحماسه للقراءة يذبل. بعض الفقرات لم تكن تعني أي شيءٍ بالنسبة له. على سبيل المثال: " كانت لي مناقشة حادة مع ب م عن الاشتراكية". من ب م؟ لم يستطع فك شفرة الحرفين. ربما تكون سيدة التقت بها في لجنةٍ ما. " رأيتُ في ب م هجومًا حادًا على الطبقات العليا في المجتمع...مشيتُ مع ب م بعد الاجتماع وحاولتُ إقناعه. ولكنه رجلٌ ضيق الفكر". إذن ب م رجل. بلا شك هو أحد أولئك "المفكرين" كما يطلقون على أنفسهم، العنيفين ضيقيّ الفكر، كما كانت تنعتهم أنجيلا. يبدو أنها دعته لرؤيتها.

"حضر ب م للعشاء. وصافح ميني!"

أدت هذه الملاحظة الغريبة إلى تغيرٍ آخر في الصورة التي رسمها لذلك الشخص. كان يبدو أن ب م لم يكن معتادًا على الخادمات، فقد صافح ميني. من المحتمل أنه كان أحد أولئك الذين يهوون نشر آرائهم في صالونات النساء. كان جيلبرت يعرف هذا النوع، ولم يكن يحب هذه الفصيلة من البشر، أيًا كان ب م. ووجد إشارةً أخرى إليه: " ذهبتُ مع ب م إلى برج لندن...قال إن الثورة قادمة لا محالة...قال بأننا نعيش في جنة الحمقى". كان ذلك نموذجًا لما يمكن لنوع ب م أن يقوله. وكان باستطاعة جيلبرت سماعه يقول ذلك. كان باستطاعته تصور شكله في رجلٍ قصير غليظ الطبع بلحيةٍ خشنة وربطة عنق حمراء، يلبس التويد(5) مثل قرنائه من شاكلته، أولئك الذين لم يعملوا بإخلاص يومًا واحدًا قط. هل من المؤكد أن أنجيلا كانت تستطيع كشف شخصيته؟ وقرأ: " قال ب م أشياء لا يمكن تقبلها عن...". تم محو الاسم بعناية. " قلتُ له بأنني لن أسمح بمزيدٍ من الإهانات في حق ...". مرةً أخرى تم محو الاسم. هل كان اسمه؟ هل كان هذا هو السبب حينما كانت أنجيلا تغطي الصفحة بسرعةٍ شديدة عندما يدخل؟ أضافت هذه الفكرة مزيدًا من النفور من ب م. بلغت به الوقاحة أن يتكلم عنه في هذه الغرفة. لماذا لم تخبره أنجيلا؟ لم تكن عادتها أن تخفي شيئًا عنه. لقد كانت رمزًا للصراحة. وقلّب الصفحات، ملتقطًا كل إشارةٍ إلى ب م. "أخبرني ب م عن طفولته. لقد كانت أمه تعمل منظفةً في البيوت...عندما أفكر في ذلك بالكاد أستطيع تحمل العيش في رفاهيةٍ كهذه...ثلاثة جنيهات ثمنًا لقبعة واحدة!". يا ليتها ناقشت الأمر معه، بدلاً من أن تحيّر عقلها الصغير بأسئلةٍ أصعب من أن تفهمها! لقد أعارها بعض الكتب. كارل ماركس. "الثورة القادمة". الحرفان ب م، ب م، ب م يترددان باستمرار. ولكن لماذا لا يوجد الاسم الكامل؟ كان هناك نوعٌ من سقوط الكلفة والحميمية في استخدام الأحرف الأولى، ولم تكن هذه عادة أنجيلا. هل كانت تناديه "ب م" أمامه؟ وتابع القراءة. " قَدِمَ ب م بعد العشاء على نحوٍ غير متوقع. ومن حسن الحظ أنني كنتُ بمفردي". كان ذلك قبل عامٍ واحدٍ فقط. "من حسن الحظ"، لماذا من حسن الحظ؟ "كنتُ بمفردي". أين كان هو في تلك الليلة؟ ألقى نظرةً على مفكّرته. كانت ليلة عشاء المانشن هاوس، ولقد قضت أنجيلا الليلة مع ب م بمفردهما! حاول تذكر ذلك المساء. هل كانت تنتظره حينما عاد إلى المنزل؟ هل كان هناك شيءٌ غير عادي في الغرفة؟ هل كانت هناك كؤوسٌ على الطاولة؟ هل كانت المقاعد قريبة من بعضها؟ لم يستطع تذكر أي شيء، أي شيء، غير خطابه الذي ألقاه في حفل عشاء المانشن هاوس. ازداد الأمرُ غموضًا. الأمر كلهُ غامض ولا تفسير له. تستقبل زوجته رجلاً غريبًا بمفرده.

قد يشرح الدفتر التالي من المذكرات هذا الأمر. وبسرعةٍ شديدة التقط الدفتر الأخير، الدفتر الذي لم تكمله وتركته بعد وفاتها ناقصًا.

وهناك على الصفحة الأولى يظهر اسم ذلك الشخص الملعون. "تناولتُ العشاء بمفردي مع ب م...لقد أصبح ثائرًا للغاية. قال بأننا قد أصبحنا نفهم بعضنا البعض الآن...حاولتُ أن أشرح له، ولكنه لم يفهم. هددني بأنني إن لم..." والجزء المتبقي من الصفحة كان مشطوبًا بأكمله. كتبت فوقه "مِصْر، مِصْر، مِصْر" على الورقة بأكملها. لم يستطع قراءة كلمةٍ واحدة، ولكن كان هناك تفسيرٌ واحد: لقد طلب منها ذلك الوغد أن تكون خليلته. وحدهما في غرفته! صعد الدم إلى وجه جيلبرت كلاندون. قلّب الصفحات بشكلٍ عشوائي. ماذا كان جوابها؟ توقف ذكر الحرفين ب م. لقد أصبح الآن "هو". " أتى مجددًا. قلتُ له لا أستطيع أن أقرر...رجوته أن يتركني". اعتدى عليها في هذا البيت؟ ولكن لماذا لم تخبره؟ كيف استطاعت أن تتردد للحظة؟ وقرأ بعدها: " كتبتُ له رسالة". ثم كانت هناك صفحات فارغة. وبعدها جاءت هذه العبارة: " لا رد على رسالتي". ثم صفحاتٌ أخرى فارغة. وبعدها العبارة التالية: " لقد فعل ما كان يهدد بفعله". وبعد ذلك..ماذا حدث؟ قلّب الصفحة تلو الصفحة. كلها كانت فارغة. ولكن هناك في اليوم الأخير قبل وفاتها، كانت تلك الفقرة: " هل لديّ الشجاعة لأن أفعل ذلك أيضًا؟".انتهى.

ترك جيلبرت كلاندون الدفتر يهوي أرضًا. كان باستطاعته رؤيتها أمامه. كانت تقف على ناصية الرصيف في (بيكاديلي). حدّقت بعينيها، وأطبقت قبضتيها. وجاءت السيارة...

لم يستطع تحمل ذلك. يجب أن يعرف الحقيقة. سار بخطىً واسعة نحو الهاتف. "الآنسة سيسي ميلر؟". وكان هناك صمت. ثم سَمِعَ وقع أقدامٍ في الغرفة. وجاءه صوتها أخيرًا: " سيسي ميلر تتحدث".

صاح: " من هو ب م؟"

كان باستطاعته سماع دقات الساعة الحقيرة فوق رف موقدها، ثم تنهيدة طويلة. قالت أخيرًا: " إنه أخي".

إنه أخوها، أخوها الذي قتل نفسه.

وسمع صوت سيسي ميلر تسأل: " هل هناك أي شيءٍ أستطيع تفسيره؟"
صاح: " لاشيء، لا شيء".

لقد استلم ميراثه. قالت له الحقيقة. لقد وثبت من فوق ناصية الرصيف لتلحق بحبيبها. وثبت من فوق ناصية الرصيف لكي تهرب منه.

الحواشي

1- نوعٌ من الحلي يشبه الدبوس مطرز بلؤلؤة أو نوعٍ من الجواهر.
2- ترجمة من اجتهاد المترجم لمقطع الأغنية الشهيرة التي يغنونها في الغرب في أعياد الميلاد الشخصية والمناسبات للاحتفال بشخصٍ ما. يقول المقطع الأول منها بالإنجليزية: for he is a jolly good fellow
3- هو مقهى شهير في بيازا سان ماركو في البندقية .
4- مفردها دوج وهو القاضي الأول في جمهورية البندقية قديمًا.
5- التويد نسيج صوفي خشن.