الاثنين، 16 أبريل 2018

الانتحال الذاتي..كيف؟

الانتحال الذاتي..كيف؟


"كيف تريد أن تقنعني أنّ الشخص يمكن أن ينتحل نفسه!".  يتردّد هذا السؤال كثيرًا، ولا يكاد يخلو منه نقاش حول موضوع الانتحالات في السنوات العشر الأخيرة. وهو سؤال وجيه فعلًا؛  فكيف يصحُّ القول إنّ الكاتب ينتحل نفسه حين يُعيد نشر فقرات من نصٍ سابق له هو نفسه؟ تعريف الانتحال هو أن تنسب قول الآخرين لنفسك، وهذا ينطبق أيضًا على المصطلح الإنجليزي "بليجرزم"، فهو مشتقّ من كلمة لاتينية تعني "اختطاف ما عند الآخرين". فكيف نختطف ما هو ملكنا أساسًا؟

الجانب اللغوي
لنبدأ أولًا من الشقّ اللغوي في المسألة. وعلينا الاعتراف للمعترضين بوجاهة اعتراضهم، فالمصطلح ركيك وغير منطقيّ، لذلك يفضّل البعضُ أن يقول "إعادة تدوير" أو "إعادة نشر"، وما إلى ذلك. فكلمة "الانتحال" قوية جدًا على هذا الفعل، واستخدامها مسيء في حقّ من نوجّه له أصابع الاتهام.
ولكنْ ماذا لو كان هذا تحديدًا ما يجعل الآخرين يتمسّكون بهذا المصطلح؟ بمعنى أننا نتعمّد استخدام هذا المصطلح المتعارض في ذاته لكي نحتفظ بكلمة "الانتحال"، نظرًا لما اكتسبتْه من قوةٍ، ودلالة إدانيّة. صحيحٌ أنّ كلمة "انتحال" أو "بليجرزم" تعني في الأصل نسبة ما للآخرين لنفسك، لكنّ هذا ليس سوى جزء واحد من الدلالة التي اكتسبها المصطلح مع الوقت، ألا وهي "الادعاء بأنك أتيتَ بشيءٍ جديدٍ في المعرفة".  



الجانب المعرفي الأكاديمي
لعلنا نتفق أنّ أكثر مجال تُثار فيه قضية الانتحالات هو المجال الأكاديمي، فالقضية هنا لم تعد مجرّد "سرقة جهود الآخرين"، بل أيضًا "التضليل" و"التشويش" على تراكم المعرفة. قد يقول قائل: طالما أنّ الكلام كلامي، فأنا لا أضرُّ أحدًا ولا أسرق أحدًا إن أعدتُ استخدامه. لكنّ هذا كلام يحتاج إلى تمحيص، فالنشر الأكاديمي لا يحدث في فراغ، وإنما هو جزء من سياق كامل ينبني بعضه على بعض، وتترتب عليه أشياء عديدة. فمثلًا، الترقياتُ الأكاديمية للأساتذة تعتمد على عدد الأبحاث المنشورة، على افتراض أنّ الأستاذ كان يضيف شيئًا جديدًا إلى المعرفة في كل بحث، وبذلك يستحقّ الترقية إلى لقب "أستاذ مشارك" أو "بروفيسور". وربما يقول أحدهم: لماذا الحسد؟ ما يضرّك لو أنه ترقّى؟ لو توقف الأمر عند ترقيته، ربما لن يضرّني أو يضرّ غيري، ولكن ماذا لو أنني تنافستُ معه على منصب أكاديمي؟ أبحاثُه الكثيرة (المكررة) بالتأكيد ستؤثر في نتيجة التنافس كما يقول أحد المعلّقين على هذا الموضوع[1].   

الجانب الأخلاقي
المشكلةُ هي أنّ القارئ (والناشر أيضًا) يتوقع منك أن تضيف شيئًا جديدًا للمعرفة، بينما أنت تجترّها. وهناك مثال طريف يورده ليونِد شنايدر: تخيّل أنك على سفرٍ واشتريت روايةً جديدة لكاتبٍ معروف، وأخذت تقرأها في رحلة السفر، ثم اكتشفتَ أنها مشابهة جدًا جدًا لروايةٍ سابقة قرأتَها للمؤلف العام الماضي. بالتأكيد ستنزعج، وربما تطالب بردّ قيمة الكتاب (انتهى المثال[2]). والحالُ نفسه مع أية كتابة أخرى. ولنأخذ مثالًا آخر: لو أنني أشرفتُ على ندوة كبيرة في بلادي ثم دعوتُ باحثًا معروفًا لتقديم ورقة بحثية فيه، وحين حضر قدّم ورقةً ألقاها في مؤتمر آخر أو نشرها سابقًا. بالتأكيد سأنزعج، وليس فقط لأنه استغفلني، لأنني سأغضب أكثر من صفاقته لو قال في بداية كلامه: "هذه ورقة ألقيتُها سابقًا في مؤتمر كذا، وسأكررها هنا".

ولو ابتعدنا عن المجال الأكاديمي، فإنّ الأمر ينطبق أيضًا على كتّاب المقالات في الصحف. جزءٌ من احترام الكاتب للقارئ والصحيفة أن أخصّهما بشيءٍ جديد لم أقله سابقًا، إلا إذا أوضحتُ لهما في المقال نفسه أنّ الكلام مكرّر. مرةً أخرى، النشرُ لا يحدث في فراغ، وتترتب عليه أشياء كثيرة؛ فهناك مبالغ تُدفع، وهناك سُمعة (ربما مزيفة) تنبني للكاتب، وهناك وقتٌ ينفقه القارئ في القراءة، ووقتٌ ينفقه المصمّم في الصحيفة، وحبرٌ وورق وجهود أخرى. إذا لم يكن ثمة جديد يستحقّ عناء النشر، فلا ضرورة للتكرار.

خلاصة
لا يُنكر أنّ ثمة اعتراضات على المصطلح، لكنه في واقع الأمر يستقرّ أكثر في الدوائر الأكاديمية يومًا بعد يوم. هذا من حيث المصطلح، أما من حيث الممارسة نفسها فقد أصبح من النادر تبريرها الآن. بل إنّ باحثًا كبيرًا مثل الراحل زيجمونت باومان طالتْه هذه التهمة بعد أن خلص باحثان في بريطانيا إلى أنّ باومان "انتحل ذاتيًا" ما يقرب من 90000 كلمة من كتبه[3]. وما يزال النقاش دائرًا حول ممارسات أخرى أصبحت تنضاف إلى "الانتحال الذاتي"، مثل أن يقسِّم الباحث أطروحته للدكتوراة إلى أبحاث صغيرة وينشرها متفرّقة لكي تتضخّم سيرته الذاتية (وأعترفُ شخصيًا أنني استخدمتُ جزءًا من رسالتي للماجستير ونشرتُه كورقة بحثية في مجلة علمية محكّمة). الأمرُ إذًا لم يعد مجرد أخذ كلام من الآخرين ونسبته إلى الذات، بل أصبح مرتبطًا أكثر بالتضليل وادعاء الإتيان بجديد معرفيًا.