الأحد، 15 مايو 2016

مصر مش تونس..وعُمان ليست لندن



حين اندلعتْ أحداثُ الثورة المصرية في يناير 2011م، ظهر في وسائل الإعلام المصرية إعلاميون وكتّاب يقولون "مصر مش تونس"، تعبيرا عن رفضهم للمظاهرات الاحتجاجية التي قد تصل إلى المطالبة بإسقاط النظام كما حدث في تونس. كان هؤلاء يحاولون "إفهام" المصريين أنّ مصر لها "خصوصيّتها"، وأنّ أوضاع مصر ليست كتونس، وأنّ رئيس مصر ليس مثل زين العابدين بن علي. لا أريد الخوض هنا في تفاصيل الثورة المصرية ولا أحاول إسقاط ما حدث هناك على الواقع العُماني، بيد أنّني أقتبس عبارة "مصر مش تونس" وما تنطوي عليها من مفاهيم لتحليل خِطابٍ بدأ يتزايد في عُمان مع أحداث الاعتقالات الأخيرة.

تابعتُ كغيري كثيرا من الكتابات والتعليقات التي ظهرت في وسائل التواصل الاجتماعي حول موضوع اعتقالات الكتّاب ومسألة انتقاد الحكومة، وقرأتُ مجموعة من التعليقات التي تصبّ في فكرة واحدة مفادها أنّ المثقّفين والكتّاب في عُمان كثيرا ما يقعون في مشكلة فِكرية حين يجهلون أو يتجاهلون خصوصية الدولة التي ينتمون إليها والمجتمع الذي يعيشون فيه، وأنّهم ببراءة أو سذاجة يريدون استجلاب نموذج من بيئات سياسية غربية وإسقاطه دفعةً واحدة على الواقع العماني، غافلين عن أنّ لكل دولةٍ قوانينها التي تراعي خصوصية مجتمعها وظروفه، وأنّ ما يصلح في نيويورك ولندن (مثلا) لا يصلح في عُمان. فطبيعةُ المجتمع وثقافته ومستوى تعليمه وطريقة تعامله مع الآراء الأخرى لا تتناسب مع ما قد يكون أمرا معتادا في دول أخرى قطعت أشواطا بعيدة في العمل السياسي والتشريعي والتقدّم التعليمي وما إلى ذلك.

أودّ قبل كل شيء أنْ أوضّح بأنني حين أستعير مقولة "مصر مش تونس" فإنني لا أشكّك في نوايا أحد بل أفترض دائمًا حُسن النوايا والرغبة الصادقة في مصلحة الوطن، كُلاً من منظوره. لكنّ هذا لا يعني أنّ هذه المقولة وما تجرّه من دلالات تخلو من مشكلات فِكرية ينبغي التنبّه عليها.

فأولا: هذا الرأي في حقيقته لا يقول شيئا ذا معنى؛ فمن البديهي أنّ لكل دولة قوانينها التي تخصّها ولا تخصّ غيرها، ولا توجد دولتان في العالم تتطابقان في القوانين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا حين نسلّمُ بوجود تشريعات لا تنسجم مع مجتمعاتنا (لأسباب متعددة دينية وثقافية وغيرها)، فهذا لا يعني أن نترك ما تُحاول تلك التشريعات تحقيقه من حفظ الحقوق والحرية والكرامة الإنسانية، بل علينا أن نضع اجتهادنا التشريعيّ الخاص الذي يتلاءم مع ظروفنا وتطلعاتنا شريطة أن يحافظ على مبادئ الحقوق والحرية والكرامة الإنسانية، إذْ لا يجوز القول إنّ هذه المبادئ الإنسانية تحقّ لغيرنا ولا تحق لنا!

ثانيا: القولُ بأنّ مجتمعا ما ليس مستعدًا أو جاهزًا للحرية أو الديمقراطية لا يستند إلى أي دليل منطقيّ أو تاريخي، ولا يعدو أن يكون مُغالطةً فكرية ينبغي مراجعتها. فالتغييرُ لا ينظرُ في الاستعداد المفتَرض بقدر نظرته إلى دفع الضرر وجلب المنفعة؛ إذ إنّ حجم الضرر والمنفعة للإنسان هو الذي يحدّد ما إذا كان الوضع يستحق التغيير أم لا. والتغييرُ الذي أتحدّث عنه ليس بالضرورة تغييرا جذريا، وإنما يُمكن أن يكون تدريجيا، بشرط الاتفاق على ذلك بين أطراف المعادلة. ولمن يقول إنّ مجتمعاتنا العربية ليست جاهزة للديمقراطية وحرية التعبير (وهو قولٌ طافح بالعنصريّة الذاتيّة) أستعير حجّة المفكر العربي عزمي بشارة حين قال فيما معناه: "من قال أصلا إنّ شعبًا من الشعوب على مرّ التاريخ كان جاهزًا للديمقراطية؟ الديمقراطية تأتي دائما عن طريق طليعةٍ أو نخبةٍ تنادي بالحقوق والحريات عبر جهودٍ سياسية طويلة إلى أن تفرض الديمقراطية على النظام الذي لم يكن ديمقراطيا". والأمرُ نفسه ينطبق على حرية التعبير، التي ما يزال لها معارضون ومقاومون حتى في الدول الراسخة في الديمقراطية، لكنّ المبدأ نفسه يظلّ قائمًا في حفظ الحقوق.

نعم، عُمان ليست لندن، لكنّ العُمانيّ لا ينبغي أن يكون أقل كرامة من اللندنيّ. فلتكن لنا تشريعاتنا وخصوصيّتنا، لا بأس، لكن من غير المقبول أن نجعل هذه الخصوصية مبررا لانتهاك الحقوق والكرامة.

الاثنين، 2 مايو 2016

عن الأيادي الأمينة



عن الأيادي الأمينة

من المقلق جدًا في أي مجتمع مدنيّ أنْ تكثُر الأصوات التي تشجّع الأجهزة الأمنية وتقرُّها على اعتقال الكتّاب، بدعوى أنّ هذه الأجهزة إنما تعمل على حماية الوطن، وأنها تعرف ماذا تفعل، وأنّ لها الحق في التحقيق مع الكتّاب وغيرهم، وأنّ المعتقلين في "أيادٍ أمينة" وسيخرجون بسلام، فلا داعي للتهويل. ثمة كلام هنا ينبغي أن يُقال لإعادة التفكير في بعض المفاهيم.

لئن كانت الأجهزة الأمنية تسعى إلى حماية الوطن، فهذا هو الهدف من وجودها أساسا، ولا ينبغي التشكيك في وطنية العاملين فيها أو التحريض عليهم. هذا كلام مفروغ منه، لكنّه لا يعني بأي حال من الأحوال أنّ هذه الأجهزة هي وحدَها من يريد الحفاظ على الوطن، أو أنها معصومةٌ وعلى حقٍ دائما. فالأجهزة الأمنية جزء من مؤسسات الحكومة، تلك المؤسسات التي لا يكاد يمرّ يومٌ دون أن نلومها وننتقدها على صفحات الجرائد وفي البرلمانات ووسائل التواصل الاجتماعي، خاصةً حين يتعلق الأمر بمظلمة شخصية أو أوجه قصور نتضرر منها. إذًا فالأجهزة الأمنية مؤسسات بشرية لها ما لها وعليها ما عليها، نحيّيها على القيام بواجبها، وننتقدها في جوانب أخرى.  

أما القولُ بأنّ المعتقلين في "أيادٍ أمينة" فلا معنى له إطلاقًا؛ إذْ من الطبيعي أن يكون كل مُعتَقلٍ أو مُحتَجَزٍ أو سجين في أيادٍ أمينة، ولو حصل غير ذلك يكون خرقًا للقانون وتنبغي المحاسبةُ عليه. أن تكون في "أيادٍ أمينة" هو حقٌ مكفول لك أساسا، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكون مبرِّرا لاعتقالك أو حبسك. ولا ينبغي أن نبرّر الاعتقال بدعوى أنّ الأجهزة الأمنية عندنا لا تمارس التعذيب؛ فهذا كلام بائس للغاية يوحي بأنّ المشكلة الوحيدة التي تجعلنا لا نقبل السجن هي التعذيب!

قد نتفهّم أن يبرّر بعض الإخوة التحقيق مع الكتّاب، ولكن ما يصعب تفهّمه هو التبرير لاحتجازك (وأنت بريء حتى تثبت إدانتك) أيامًا وأسابيع بدعوى التحقيق، وكأنك إرهابي ستهرب من البلاد أو تشكّل خطرًا على سلامة المواطنين.  

وأما القولُ بأنّ حرية التعبير ليست مُطلقة، فهذا كلام مفروغٌ منه أساسا، ولا يوجد بين أعتى دعاة الليبرالية وحرية التعبير من يفكّر بهذه الدرجة من الصبيانية. المنادون بحرية التعبير ينطلقون أساسا من مبدأ الحفاظ على الحقوق والحريات، لذلك من الطبيعي أن توجد قوانين تُدين بعض أنواع التعبير العنصرية والطائفية مثلا للحفاظ على حقوق الآخرين وسلامتهم.

من المؤسف أن تظهر أصوات من بينها أصوات كُتّاب تغمز بتأييد الاعتقالات، بدعوى أن الوطن خطٌ أحمر. والسؤال هنا، من خوّلكَ قاضيا تحكم بأنّ الكاتب الفلاني قد تجاوز الخط الأحمر؟ وهل هذا الخطّ الأحمر واضح تماما أصلا؟ وهل تستطيعُ أنتَ أن تُقسم قسما قانونيا على أنّ الكاتب كان يقصد المعنى الذي فهمته أنت؟ ثمة جانب أخلاقي ينبغي علينا مراجعته قبل التحريض على اعتقال شخص بريء. 

من واجبي كإنسان نحو كل البشر أن أستنكر وأعترض على اعتقال أي شخص بسبب رأيه. ليس معنى ذلك أن نتساهل مع كل أشكال التعبير العنصرية والطائفية مثلا، ولكن علينا -كما يقول تشومسكي- الحذر من أن نمنح جهةً تنفيذية الحقّ الكامل والحصريّ في تفسير ما يكتبه الكتّاب وتحديد ما ينبغي أن يُقال وما لا يُقال وما هو التاريخ الصحيح، وأن تُعاقب من يحيد عن ما تريده. ببساطة، ومن أجل حفظ القانون وكرامة الإنسان، لا أريد لحكومةٍ، أيا كانت تلك الحكومة، أن تملك سلطة بهذا الحجم. من حقّ الناس أن يكون لهم رأي (عبر برلماناتهم) في القوانين، وأن يكون الفيصل في أي نزاع هو القضاء المستقل.