الاثنين، 24 سبتمبر 2012

الإعابة..الأيقونة المصطنعة


يأتي هذا المقال في وقتٍ قد هدأتْ فيه نسبيًا حمى الاستقطاب المجتمعي حول قضية "إعابة الذات السلطانية"، بيد أنّ الكتابة في هذا الموضوع لا تخلو من مخاطر؛ فالاستقطاب إنما هدأ ولكنه لم يغب تمامًا، وما يقوله أو يكتبه أحدهم قد يؤدي إلى غضب البعض ورضا بعضٍ آخر، وربما حتى اتهامٍ بالتحريض (ولعلّي أعترف هنا أنني أحرّض على دراسة المشكلة). لكنّ هدف المقال في حقيقة الأمر بعيدٌ عن نزعة النُصرة لفريقٍ دون آخر، ولا يحاول حتى السير في اتجاه "إمساك العصا من النصف"؛ إذ إنّ المقال يسعى في المقام الأول إلى الابتعاد عن تلك "العصا"، والنظر إليها وإلى حامليها من بعيد، متجنبًا الخوض في إصدار أحكام قِيَمية ترجح كفة طرفٍ على آخر. يصدرُ هذا المقال من رصدٍ لتناول المجتمع ومثقفيه لقضية "الإعابة"، ويحاول التنبيه على أنّ الوعي بهذه القضية يتم تشكيله أو سحبه إلى ميدانٍ آخر، يختزل القضية ويتلاعب بدلالاتها إذ ينزعها من سياقها الأرحب سياسيًا واجتماعيًا.

صنع الأيقونة
الناظر الآن إلى الجدل الدائر حول القضية (وآخره مقال د. زكريا المحرمي1) لا يكاد يخرج من لعبة الدفاع والتعاطف مع المتهمين، أو التبرأ من فعلهم (أو منهم)، أو الوقوف في الوسط لحل الإشكال بين الكاتب والسلطة. وهذا ما سارت في محيطه أيضًا ندوة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء2، فنلاحظ أنّ مقال د. زكريا يقترح إنشاء لجنة حكماء تساعد القضاء في الحكم على قضايا التعبير عن الرأي، كما حاولت بعض أوراق الندوة المشار إليها أعلاه التنبيه على ضرورة إعادة النظر في التشريعات الحالية لتجنب التصادم بين حرية التعبير والقانون.

وهذا المشهد مع بقية ما يُنشر في وسائل الإعلام المختلفة يحصرُ القضية كلها في فعل الإعابة (أو في حرية التعبير)، ليخلق منه حدثًا أو أيقونة لا تشير إلا إلى ذاتها، تنطلق منها وتنتهي إليها، متجاهلة السياق الذي أدى إليه واستشراف القادم المبني عليه هو لا على تفرعاته فحسب. لذلك فإنّه من المستغرب تفريغ القضية من مضمونها وساحتها الفكرية، والزجّ بها في متاهاتٍ أخرى (حرية التعبير، وصراع المثقف/السلطة، والقيم الاجتماعية، والانتماء، والولاء لرمز البلاد). من غير المفهوم حتى الآن كيف أنّ المثقف والمفكر العماني لم يطرح الأسئلة التي تخصّ القضية الأساسية التي كان فعل الإعابة فرعًا عنها، فهل القضية الأساسية هي حرية التعبير، أو صراع المثقف والسلطة، أو الولاء؟ كل هذه القضايا-في رأيي- هي نتائج لا أسباب. لا بدّ أن هناك عوامل وأحداثًا سياسية واقتصادية واجتماعية تحتاج منا إلى بحثٍ وتحليل، كي نتوصل إلى أساس القضية لا جزءٍ من تجلّيها في فعل الإعابة. وربما يكون مقال د. المعتصم البهلاني "قبل أن يسقط البرواز المقدس" ومقال بسمة الكيومية "إعابة الذات السلطانية" الاستثناءين الأبرز لكيفية تناول الكاتب العماني لهذه القضية، رغم ما بهما من انفعال أو انحياز.

ومن الواضح أنّ إشاعة مصطلحي "الكتابات المسيئة" و "الإعابة" كعنوان للقضية ساعد على تفريغها من أساسها؛ إذ يؤدي العنوان هنا وظيفة اختزالية تقنع القارئ والمستمع (المحايد) بأنّ الأمر كله متعلق بفعل الإعابة أو الإساءة، ويؤدي وظيفة استفزازية للقارئ والمستمع (المتعاطف) بحيث يشغله في التشكيك في هذين المصطلحين ومدى ملاءمتهما قانونيًا لمحاكمة المتهمين. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ مصطلح "الإساءة" كان يؤدي دورًا كبيرًا في اللاوعي إذ يُذكّر- كما أشار د. زكريا المحرمي بفطنته في تغريدةٍ له- بقضية الرسوم المسيئة للنبي (ص). ومنذ أن برزت هذه القضية يتم تأجيج الصراع بين المتعاطفين والمتبرئين وتغذيته بمصطلحات ومفاهيم ومواد قانونية يطوّعها كل طرفٍ لخدمة موقفه3، ولا يكاد المجتمع يهدأ حتى يتجدد الصراع بعقد المحاكمات ونشر المقالات والأخبار وصور المتهمين في وسائل الإعلام المحلية، مما يجدد سيل الدفاع والاتهام المجتمعي خاصة عبر وسائل التواصل الحديثة. والمتأمل لما يُكتب ويُقال يُلاحظ خلطًا مقصودًا أو غير مقصود في التعميم يُذْكي عملية التراشق بالاتهامات ويُزيح الوعي بالأسئلة الهامة، كما في المثالين التاليين:
1- توسيع نطاق البذاءة التي وردت من "بعض" المتهمين"، وتعميم وصف البذاءة والسب على جميع المتهمين.
2- توسيع نطاق المظلومية على "بعض" المتهمين الذين كتبوا ألفاظًا أو عبارات تحتمل التأويل وليست بالضرورة بذيئة وتأتي في سياقٍ حسن النية، وتعميم التبرئة على جميع المتهمين.

كسر الأيقونة
حتى يمكننا معالجة المشكلة التي تمرّ بها السلطنة، والوصول إلى سياساتٍ تعيد التناغم بين أفراد المجتمع وبين حكومته، لا بدّ أن ينعتق المثقفون والمفكرون (وحتى الحكومة) من هذه الأيقونة المصطنعة، وإعادة الوعي بالقضية الحقيقية، مبتعدين عن الإجابات السهلة الجاهزة الفقيرة في مقدرتها التفسيرية من قبيل "التآمر والتحريض"، أو حتى "التأثر برياح التغيير"، ومحاولين الإجابة عن ثلاثة أسئلة:
1- ماذا جرى؟ (قبل فعل الإعابة)
2- لماذا جرى؟
3- كيف جرى؟
فمن وجهة نظري أنّ البحث عن الأسباب السياسية والاجتماعية التي أدّت إلى اتخاذ عددٍ من الشباب هذا الموقف العنيف لفظيًا ضد السلطان، أهمّ بعشرات المرات من البحث عما كتبوه وعن الطرق التي يجب معاقبتهم بها. إنّ ما يحدث الآن يمكن تشبيهه بعلاجٍ لحالة ظهر فيها العَرَض، لكنه ليس علاجًا لأسباب "المرض" وانتشاره؛ وكي نكون صادقين يجب علينا الاعتراف بأنّنا نسمع الآن "إعابات" أقذع مما كُتب بكثير، فما السبب؟ لا يمكن بتاتًا معالجة الأمر بتعقّب الوسيلة (النشر في الإنترنت والهواتف المحمولة)، فغدًا تظهر وسائل أخرى.

  كلمة أخيرة: يكتفي هذا المقال بالتنبيه على ضرورة الالتفات إلى أساس المشكلة، ولكنه لا يبحث فيه نظرًا لما يتطلبه هذا البحث من دراسة ومعلومات وافرة.

  الإحالات
1- "الإعابة بين الوعي الثقافي والخرق الاجتماعي"، جريدة الشبيبة بتاريخ 24 سبتمبر 2012: http://www.shabiba.com/News/Article-7649.aspx 
2- "حق التعبير وحق التجمهر السلمي بين النص والواقع"، مسقط في يوم 16 سبتمبر 2012.
3- أشار إلى ذلك أيضًا الدكتور زكريا المحرمي في مقاله المذكور أعلاه.

الأحد، 5 أغسطس 2012

علي سليمان الرواحي..وتأويل "خف علينا"



نشرت صحيفة البلد الإلكترونية بالأمس (4 أغسطس 2012) مقالًا للكاتب والصديق (علي سليمان الرواحي) بعنوان "خف علينا..وفلسفة التأويل"، والذي يتناول فيه بالتحليل إحدى حالات ما بات يُعرف بـ"قضية إعابة الذات السلطانية"، حينما رفع أحد الشباب لافتة كُتب عليها "خف علينا راعي لندن"، فأحيل على إثر ذلك إلى المحاكمة مع آخرين بتهمة الإعابة. ونظرًا لما شكّلته هذه القضية من إثارةٍ ولغطٍ في عُمان، حَظِيَ المقال كغيره في القضية ذاتها باهتمامٍ وانتشار سريعين، ما بين مُهاجمٍ حادّ، وموافق شديد الفخر.
في هذا المقال نحاول أن نتبين طريقًا وسطى، للتأمل بموضوعية في ما طرحه الرواحي في مقاله. وسيتضح من الفقرات التالية السبب الذي يجعلنا نكتب تعقيبًا على مقال الرواحي بالذات رغم كثرة ما كُتب حول قضية الإعابة.

أولا: تلخيص للمقال
تتركز فكرة المقال حول إشكالية احتكار السلطة للتأويل، بمعنى أن تنفرد الجهات الحكومية بحق صياغة التفسير الذي تراه مناسبًا لما يخدم مصالحها أو توجهاتها في قضيةٍ ما، متجاهلة عن عمد التفاسير أو التأويلات الأخرى المحتَملة، والتي يمكن أن لا تكون في صالحها. وهنا لا يمكننا أن نغفل مفهوم القوة/السلطة التي تمتلكها الحكومة، هذه القوة التي تمنح تفسيرها شرعية ورسمية لدى المواطن البسيط. وهكذا يذهب الرواحي إلى أنّ الادعاء العام اختار تأويلا معينًا لعبارة "خف علينا..." كي يُثبت تهمة الإعابة على المتهم، ولم ينظر في التأويلات المحتملة الأخرى التي قد تبرئ ذلك الشاب.

ثانيا: التحليل
بداية، لا بد لنا من تحيةٍ إلى الكاتب علي الرواحي لمنهجيته في الكتابة؛ حيث نجد أنه قدّم تحليلا يسير ضمن إطار منهجي واضح (=فلسفة التأويل)، شارحًا فكرته بهدوء وتسلسل يُحسبان له. ومما يُحسب له أيضًا طرح قضية في غاية الأهمية، وهي التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة من خطورة احتكار السلطة في أي مكان وزمان لحق التأويل، وترسيخ الفكر الأحادي الإقصائي. وذلك لا يمكن فصله عن قضايا مصيرية أخرى مثل استقلال القضاء الذي يفصل في تعدد التأويلات.
نقطة الضعف التي نراها في المقال ونعاتب فيها علي الرواحي تكمن في التأويل البديل الذي ساقه لعبارة "خف علينا..."، ليدلل به على إمكانية وجود تأويلات أخرى. حيث يقول الرواحي:

"حيث نجد ان الموضوع “خف علينا راعي لندن” هو موضوع عمومي لم يتم الإشارة فيه لشخص محدد بعينه ، مما يجعل التأويلات مفتوحة على مصراعيها و لا يمكن حصرها في شخصية السلطان تحديدا ً ، ف لندن مليئة بالسكان و زائريها و القاطنين فيها مجهولي الهوية و لا يمكن حصرهم ، وهو ما يجعلنا نستطرد في التأويل بأن هذه اللافتة ربما هي اشارة الى صديق بغض النظر عن هويته او جنسيته موجود في لندن تعذّر الوصول اليه بالطرق التقليدية. أضف إلى ذلك من الضروري التوضيح هنا و منعا ً لأي إلتباس يقع بشكل غير مقصود بأن السلطان ليس “راعي لندن” بل هو “راعي عُمان” اذا اخذنا بالحديث المشهور ” كلكم راع ٍ وكلكم مسئول عن رعيته”.
و على مستوى السياق فان عدم وجود السلطان في السلطنة في تلك الفترة و عدم إعلان مكان تواجده في الوسائل الإعلامية الرسمية – كما جاء في مذكرة الدفاع التي قدمها المحُامي القدير : يعقوب الحارثي – يثير الكثير من التساؤلات حول الأسباب التي دعت الجهات الأمنية العُمانية الى تبنّي هذا التأويل ، و الحيثيات التي استندت عليها لتوجيه هذا الاتهام و الذي على إثره تم إصدار الحكم ، ففي تلك الفترة كانت وسائل الاعلام العُمانية تتداول الخبر بأنه في زيارة خاصة للدول الاوروبية بدون تحديد او تعيين."


ومع –وبسبب- احترامنا الشديد للكاتب علي الرواحي، نعتب عليه أن ينزل فجأة من مقدمة منهجية ممتازة إلى تأويلٍ "شاطحٍ" في الخيال والبعد عن الواقع والسياق الذي ذكر هو نفسه أنه يؤطر التأويلات كي لا تنفلت. فمثلا، هل بالإمكان تصديق أنّ من حمل تلك العبارة قد يقصد "صديقا موجودًا في لندن" أو أي أحدٍ آخر لأن لندن مليئة بالسكان والزوّار؟ إن كان الأمر كذلك، فما الذي يجعل هذا الشاب يحمل العبارة أمام مقر الادعاء العام وعلى خلفية حدثٍ سياسي؟ وأما مسألة أنّ وجود السلطان في لندن لم يكن مُعلنًا، فتلك أيضًا حجة ضعيفة، لأنّ المتداول آنذاك (السياق الشعبي) أنّ السلطان كان هناك بالفعل سواء أصحّ ذلك أم لم يصح. هذا ولسنا بحاجةٍ أيضًا إلى تبيان ضعف التأويل فيما يتعلق بمسألة "راعي عمان".

المقال له أساس قوي جيّد، وطَرَحَ آراء مُحترمة فيما يتعلق بالإشكالية الواقعة بين تهمة الإعابة وعملية نقد السلطان بصفته رئيسا للحكومة (كما أشار عدد من الكتاب إلى هذه القضية مؤخرًا)، لكنّ التأويل المطروح أعلاه أفقد المقال كثيرًا من رصانته وجدّيته، خاصة وأنّ فكرة المقال الأساسية تعتمد على الإتيان بتأويلاتٍ بديلة محتملة تعزز مفهوم التعددية التأويلية في وجه أحادية التأويل. نرى أنّ علي الرواحي غلّف مقاله بلباسٍ علمي أكاديمي، لكنّ هذه الجزئية من تحليله ربما لم تتخلص من ضغط التعاطف مع قضية المعتقلين، الأمر الذي ربما منعه من وضع نفسه ككاتب خارج القضية لقراءة ما كتب كبقية المتلقين الذين قد يصعب عليهم الاقتناع بتأويله.

هل ذلك يعني أنّ المقال سيء؟ ليس بالضرورة، ولكنه ربما يكون أكثر إحكامًا لو تناول خيطًا آخر من التحليل. المشكلة الحقيقية في رأيي ليست فيما إذا كان الشاب يقصد السلطان أو شخصًا آخر، وإنما في حمل هذه العبارة على أنها "إعابة". هنا..وهنا بالتحديد قد تتعدد التأويلات؛ فإن كانت الأجهزة الحكومية ترى في "خف علينا" عبارة نابية مُعيبة شاتمة ، فليس شرطًا أن يتفق الجميع معها حول ذلك، بل من الممكن أن يراها أحدهم "نكتة سمجة" أو "سوء تعبير" أو حتى "قلة تأدب". أيًا ما كان الأمر، هل يستحق ذلك حُكما بالسجن؟ الأمر يقبل التأويل والأخذ والرد.

أخيرًا، يسأل الرواحي قائلا :"هل المقولة المذكورة منغلقة على نفسها وواضحة لا تقبل الالتباس أو تعدد التأويلات وتباينها...؟". ونقول، ربما لا، ولكنك يا علي لم تأتِ بأمثلة على التأويلات التي تستحق أن تكون بديلة. ربما نتقبل التأويل الذي طرحه المقال من محامي يحاول استغلال أية ثغرة أو قشة يتعلق بها للدفاع عن موكله، ولكن عندما يخرج التأويل من مفكرٍ واعد، فيحق لنا أن نعتب ونعقّب. وإن كان الكاتب لا يستطيع الانفصال عن عواطفه ومواقفه، فهذا أمر مفهوم، ولكننا حين ندافع عن قضيةٍ ما نحتاج إلى قوة حجة كي لا نخسر ما ندافع عنه.

الأربعاء، 30 مايو 2012

تصريحات غير موفقة لنائب رئيس الجامعة


تناقل العديد من العمانيين بالأمس في شبكات التواصل الاجتماعي خبرَ الإعلان عن طرح تخصص العلوم السياسية في جامعة السلطان قابوس وتغيير مسمى كلية "التجارة والاقتصاد" إلى "الاقتصاد والعلوم السياسية"، وكان من الواضح أن الإحساس العام هو السعادة بهذا التوجه رغم تشكك البعض وتحفظهم إلى أن تتضح معالم التخصص الجديد. في كل الأحوال أعتقد أنها خطوة ممتازة، إذ لا بدّ للجامعة الكبرى في عُمان أن تسعى لطرح تخصصاتٍ هامةٍ كهذه، ومن محاسن الصدف أن نقاشًا جرى في موقع "تويتر" قبل الإعلان بيوم أو يومين حول غياب تخصصات الفلسفة والعلوم السياسية في الجامعات العمانية. نحن في عُمان بحاجةٍ إلى جيلٍ يمتلك وعيًا سياسيًا يسهّل عليه استيعاب وتحليل ما يحدث في العالم الذي غدا مفتوحًا بلا أية قيود، ومن الأفضل أن يتشكل هذا الوعي السياسي بشكلٍ علمي ومنهجي رصين. بالأمس كنتُ أقول في نفسي: يجب أن نقدّم التحية للجامعة على هذه الخطوة التي ما كان يجب أن تتأخر أكثر من ذلك.

أما اليوم فقد شعرتُ بانزعاجٍ بعد قراءة التغطية الصحفية التي نُشرت في جريدة عُمان حول المؤتمر الصحفي الذي تم الإعلان فيه عن طرح التخصص الجديد، ولستُ متأكدًا ما إذا كانت هذه التصريحات قيلت حرفيًا كما هي مكتوبة أم أن الصياغة قد تغيّرت مع التحرير الصحفي. إن كانت قِيلت هكذا، فلا بدّ للمسؤولين في الجامعة أن يعيدوا النظر بجدية في طريقة خطابهم للإعلام، خاصة وأن تصريحاتهم تمثّل المؤسسة الأكاديمية الأكبر في السلطنة. وهنا سأعلق سريعًا على إجابتين تفضل بهما الدكتور نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية وخدمة المجتمع، وهو المكلّف برئاسة فريقٍ يقدّم تصورًا لإعادة هيكلة كلية "التجارة والاقتصاد" وإعداد برنامج العلوم السياسية. وعسى أن يتقبل ملاحظاتي هذه بصدرٍ رحب، رغم أنه في رأيي يستحق-على هذه التصريحات- نقدًا لاذعًا.

أولا: حينما سُئل نائب الرئيس عن مدى حاجة سوق العمل إلى هذا التخصص قال: "نظرًا للتوجيهات السامية لا بد من وجود حاجة ملحة وضرورية، إلا أنه لا يوجد لدينا في الوقت الحالي تصور عن طبيعة الوظائف التي يمكن أن يشغلها خريجو هذا البرنامج...". الجزء الأول من الإجابة (بحرفيّته) يعكس مصيبة كبرى ويشكّل للقارئ صدمة حقيقية، إلا أنني سأحسن الظنّ وأقول بأنّ التعبير قد خان نائب الرئيس، وأنه أراد القول بأنّ توجيهات جلالة السلطان لا بدّ أن تكون قد جاءت بعد دراسةٍ ومقترحاتٍ من مستشارين ذوي كفاءة وخبرة. أما الجزء الثاني من الإجابة فمن الخطأ أن يصدر عن مسؤول. أتساءل هنا كيف لجامعةٍ أن تُعلن عن طرح تخصصٍ ما وهي لا تملك أي تصورٍ عن الوظائف التي سيشغلها الخريجون؟ لنقل إنّ الأمر في حقيقته ليس كذلك، لأنّ الخبر المنشور يذكر قيام الجامعة بدراساتٍ بعد تلقي الأوامر السامية، ومن الطبيعي جدًا أن أية دراسة مبدئية لا بد أن تتطرق إلى مخرجات التخصص والمهارات التي ستكتسبها، والحيّز الاجتماعي والمهني الذي ستشغله. أريد فعلا أن أحسن الظنّ، إلا أنّ بقية الإجابة تزيد الأمر تعقيدًا حين يقول نائب الرئيس: "إلا أنه لا توجد لدينا رؤية حول ما هي طبيعة الخريج ولكننا بدأنا في التشاور مع الجهات المعنية التي من الممكن أن توظّف الخريج بها". أتفهّم أن لا تكون هناك رؤية نهائية كاملة، ولكن القول بأنه لا توجد رؤية حول طبيعة الخريج فهذه مشكلة، وأقلّ ما يُمكن أن يُفهم منها هو أنّ الجامعة تسارع إلى "تطبيق الأوامر" دون أن تعرف ماذا تفعل. في مؤتمرٍ صحفي ينتظر منه المجتمع أن يعرف إجاباتٍ واضحة لا يصحّ أن تظهر الجامعة بخطابٍ غامضٍ كهذا. ولا بدّ أن نعترف للجامعة بحسن التدبير فيما يختص بالتشاور مع سوق العمل، فهذا التعاون أصبح أمرًا تدعو إليه معظم أدبيات التعليم العالي وتصميم المناهج

ثانيًا: حينما سُئل نائب الرئيس عن المناهج والجامعات التي ستعتمد عليها الجامعة في تدريس هذا التخصص قال بأن: " هناك مصدرين أساسيين سيتم الاعتماد عليهما في برنامج العلوم السياسية وهم النهج السياسي الحكيم للسلطنة الذي لا بدّ أن يكون جزءًا متأصلا في هذا البرنامج والخبرة العالمية من معارف ومهارات...فنحن متوجهون إلى المجتمع والسياسة الحكيمة للسلطنة كمنهج". مع شديد احترامي لسيادة نائب الرئيس، إلا أنّ هذا الكلام لا يصحّ أن يصدر عن مسؤول في مؤسسةٍ أكاديمية، ولا يشير إلى أية معرفةٍ بتخصص العلوم السياسية. كيف تحكم على نهج السلطنة بأنه حكيم وتفرض هذا الحُكم على الطلاب قبل تدريسه؟ لماذا لا بدّ أن يكون جزءًا متأصلا في البرنامج؟ وكيف للسياسة العمانية أن تكون جزءًا "متأصلا" دون أن يكون لدينا منظرون سياسيون أصلا؟ هل نحن بصدد تدريس مرحلةٍ متقدمة من منهج "التربية الوطنية"؟ ليس من حقّ الجامعة أن تفعل ذلك، خاصة وأنّ أحد أهداف دراسة العلوم السياسية هو القدرة على تحليل السياسات ونقدها، لا تمجيدها. كنتُ أتوقع من نائب الرئيس أن يكون قد اطّلع على أيّ منهجٍ متّبع في العالم، ويشير إلى تدريس مواد مثل "مبادئ العلوم السياسية" و"القانون الدولي" و "الأيديولوجيات السياسية" و "حقوق الإنسان" و "العلاقات الدولية" و "علم الاجتماع السياسي" و "القضايا الدولية الراهنة" إضافة إلى السياسات الداخلية. نعم، أتفهم تمامًا أن تشعر الجامعة بالامتنان للتوجيهات السامية، ولكن ذلك لا يعني أن تسخّر التخصص لتمجيد سياسات الحكومة، فهذه ليست وظيفته.

أخيرًا، هذا ليس نقدًا للتخصص الجديد فحتى الآن لا تُعرف ملامحه، ولكنها ملاحظات على الخطاب الإعلامي الذي لم يكن موفقًا أبدًا من جانب نائب رئيس الجامعة.

السبت، 19 مايو 2012

رد على الافتراء ضد عُمان في مسألة الاتحاد الخليجي


في الفترة القليلة الماضية كثُرت الانتقادات الموجّهة لحكومة سلطنة عمان على خلفية تحفظها على مشروع الاتحاد الخليجي الذي نُوقش مؤخرًا في قمة الرياض. وتبدّت هذه الانتقادات ما بين هجومٍ لاذع وعتبٍ متسائل، ونحن يجب أن تكون صدورنا مفتوحة لإخوتنا في الخليج نتقبل نقدهم وعتابهم، وبالحوار نصل إلى نقاطٍ مُشتركة.

ولكن ما أثار انتباهي هو تكرار مقولةٍ عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يرددها عددٌ من الناس عوامهم ومفكروهم، بأنّ "عُمان كانت دائمًا ضد أي وحدة خليجية وتصرفها الأخير تكملة لهذا النهج". ولم يكن الأمر ليثير انتباهي لو كان يُطرح على أنه رأي وتحليل يصيب ويخطئ، وإنما يتم تداوله على أنه حقيقة تاريخية لا ريب فيها تتناقلها الألسن بسرعة وتؤمن بها فورًا.

لذا، وبغضّ النظر عن أي رأي شخصي في موضوع الاتحاد، ودون أن يكون رأيي ممثلا بالضرورة للرأي الرسمي في عُمان، توجّب عليّ أن أبيّن زيف تلك المقولة وتهافتها. هناك فرقٌ بين النقد وبين تزوير التاريخ، ونشر المزايدات على الوحدة والتكامل الخليجي. وفيما يلي أستعرض باختصار بعض الحقائق التي تثبت بأنّ عُمان كانت أوّل المبادرين والداعين إلى الوحدة الخليجية، ولا أقول وحدة اقتصادية، بل وحدة عسكرية أمنية كما يبدو أن الرياض تدعو لها الآن.

أولا، كانت عُمان ربما أول من دعا إلى وحدة الصف الخليجي أمنيًا في بداية السبعينيات، أي في بداية حكم السلطان قابوس. وهذا أمر مفهوم إذ كانت عُمان تواجه المدّ الشيوعي في الجنوب وتحاربه، لكن السلطان قابوس كان يريد إيصال فكرة هامة لإخوته في الخليج أنّ هذا المد الشيوعي لن يقف في عُمان بل سيسعى إلى اختراق الخليج كله. وأشار السلطان إلى ذلك في خطابه السنوي عام 1972 حين قال:

" وقد اتضح من خلال بيانات وتصريحات ما يسمى بالجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي. ان عمان ليست هدفا في حد ذاتها وانما هي الباب او المنفذ الذي تصور لهم اوهامهم اقتحامة الى سائر دول المنطقة لاغراقها في بحر من الدماء والتخريب والفوضى والفقر والالحاد والسلب والنهب وانتهاك الاعراض... نعجب لاؤلئك الذين يحسنون الظن بالشيوعيين وللمتهاونين الذين تخدعهم الشعارات الشيوعية فيتيحون لهم الفرص للاستفادة بها واستغلالها لإشاعة البلبلة ولاضطراب وللمخدوعين الذين يقللون من الخطر الشيوعي وانه بعيد منهم"

ولم يكتفِ السلطان بهذا الخطاب بل أخذ يروّج لفكرة الوحدة عبر لقاءاته مع إخوته القادة في دول الخليج واحدة بعد الأخرى طوال فترة السبعينيات (1). ويقول السلطان في حوارٍ له مع جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 28 أبريل 1973: "الموقف فى ظفار كان أحد الموضوعات الرئيسية التى بحثتها أخيرا مع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة وقد أكدت له أن دول الخليج تتعرض للأخطار الخارجية تماما مثل سلطنة عمان"، ثم قال في حوار مع مجلة المصوّر المصرية بتاريخ 23 يونيو 1973: "لا ريب أن الاتحاد قوة، وهو إذا أمكن تحقيقه فإنه سيكون الدرع الواقى للمنطقة".

ثانيًا، كرر السلطان ترويجه لفكرة الوحدة الأمنية في خطابه السنوي لشعبه عام 1975 بشكلٍ صريح حين قال:" لقد حذرنا في خطابنا.. في العيد الوطني الرابع، وقلنا أن الحفاظ على امن المنطقة.. مسؤولية شعوب المنطقة كلها".

ثالثا، دعت عُمان في عام 1976 إلى اجتماعٍ لوزراء خارجية الدول الواقعة في الخليج بما فيها إيران والعراق لبحث فكرة الوحدة الأمنية ضد أية تهديدات خارجية، إلا أنّ تلك الدول لم ترَ ضرورة ملحة للوحدة (2).

رابعًا، في عام 1979 طرحت عُمان مجددًا فكرة التعاون الأمني العسكري بالتركيز على قضية الملاحة والتجارة عبر مضيق هرمز ضد أية تهديدات، واقترحت أن يتم ذلك بالتعاون مع قوى عظمى لها قدرات عسكرية وخبرة في التأمين. والذي حدث أنّ عددًا من دول الخليج تحفظت على الفكرة، وأبرزها المملكة العربية السعودية التي كانت ترفض أي دورٍ أمريكي في المنطقة، مما يبدو أنه رد فعل على اتفاقية كامب ديفيد (3). وهكذا ذهب الاقتراح أدراج الرياح.

خامسًا، بعد غزو العراق للكويت، ثم تحريرها اجتمع القادة في قمة الكويت عام 1991، وهنا طرح السلطان قابوس بحماسة شديدة فكرة "الجيش الخليجي الموحد" يكون قوامه مائة ألف جندي خليجي، لصدّ أي عدوان وتهديد لأمن الخليج كما حدث من العراق ضد الكويت والسعودية। وقدّم السلطان قابوس ورئيس الأركان العسكرية مشروعًا مفصلا متكاملا، إلا أنّ دول الخليج تحفظت واحدة بعد الأخرى ووأدت فكرة السلطان بدعوى إحالة الموضوع "للدراسة" (4)। وبعد سنوات تم تعزيز قوات درع الجزيرة التي كانت موجودة منذ الثمانينيات ولكن بشكل ضئيل.

كانت هذه إشارات للرغبة العمانية المتواصلة في إنشاء وحدة خليجية عسكرية أمنية، ليس فقط لحماية عُمان بل كامل الخليج، بل إن فكرة الجيش الموحد جاءت في وقتٍ لم تكن عمان فيه مهددة بل الكويت والسعودية. فنتمنى على إخوتنا في الخليج أن يتذكروا التاريخ ويقرؤوه جيدًا قبل قذف التهم بين الأشقاء.

وأخيرًا، فإن ما ذكرته آنفًا ليس دفاعًا عن الموقف الرسمي للسلطنة (والذي لم تُعلن أسبابه أساسًا)، ولكن دفاعًا عن التاريخ ضد أي تزوير، ولو كان هذا الكلام قيل عن أية دولة خليجية أخرى لكتبت الشيء نفسه. جلّ ما نريده هو أن نتحاور بهدوء كي يكون بيننا اختلاف لا خلاف، فهكذا يُبنى الاتحاد، ولا يُبنى على التشكيك لمجرد اختلاف في وجهة نظر.

المراجع
1- انظر: ابراهيم نوار، "السياسة الخارجية العمانية من العزلة إلى دبلوماسية الوساطة":
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=217392&eid=13
2- انظر: John Reese and Joseph Englehardt, ‘Toward Collective Security in the Gulf: An Evolving United States Role in Support of the GCC States.
http://www.dtic.mil/dtic/tr/fulltext/u2/a236050.pdf
3- المصدر السابق.
4- انظر: ابراهيم نوار (مصدر سابق)، "ترتيبات الأمن في منطقة الخليج العربي بعد تحرير الكويت" من موسوعة "مقاتل في الصحراء":
http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/IraqKwit/30/sec06.doc_cvt.htm
وانظر أيضًا: ظافر العجمي "تفكيك درع الجزيرة: نهاية حلم الأمن الجماعي الخليجي":
http://gulfsecurity.blogspot.co.uk/2007/09/blog-post_17.html
وانظر أيضًا: Mohammed al-Rumaihi “The Gulf Monarchies: Testing Time”
http://www.meforum.org/422/the-gulf-monarchies-testing-time

الأحد، 13 مايو 2012

الخادمة موظفة أم..؟


من المتعارف عليه في أخلاقيات العمل أنّ للموظف الذي يعمل لديك حقوقًا عليك، مثلما عليه واجبات تجاهك. وإنْ كان الهدف الأساسي لربّ العمل هو تحقيق الحدّ الأقصى من الفائدة من الموظف، فإنّ من حقّ هذا الموظف أيضًا أن تضمنَ له التطور في إمكانياته، لا رفع مخصصاته فحسب. فإذا جئتَ بمنسّق أو سكرتير، وعمل لديك خمسة أعوام ثم خرج من عندك وإمكانياته لا تؤهله إلا أن يعمل سكرتيرًا في مكانٍ مشابه، فأنت قد قصّرت في حقه.

قد يكون هذا المفهوم مفعّلا في سوق العمل (وفي بعض الأحيان في القطاع الخاص أكثر من الحكومي) إلا أنه غائب تمامًا في المنزل؛ فالغالبية العظمى منا (إن لم نكن جميعنا) لا تنظر إلى الخادمة أو العاملة على أنها موظفة. صحيحٌ أننا نوفر لها المسكن، والغذاء، والعلاج، وتذاكر السفر، وأحيانًا بعض الترفيه، إضافة إلى الراتب الشهري، ولكنّ هذه الخادمة مهما قضت مع مخدوميها من سنين، وإن وصلت 15 سنة، فإنها تعود إلى بلادها بالنقود التي ادّخرتها لا غير، وليس لها إلا أن تبحث عن مخدومٍ آخر. في هذا السياق، هل الخادمة أقرب إلى الموظفة..أم العبدة؟

في تقديري أننا نستقدمُ عبيدًا لا موظفين، نبحث عن العمالة التي تقبل بأي شي وأقل شيء، والتي لا تعرف ولا تستطيع أن تطالب بحقوق لا نريد نحن أن نوفرها। لذلك نحن نستقدم الخادمات من البلاد الفقيرة، ولا نفكر مجرد التفكير في البحث في دول شرق أوروبا مثلا। الخادمة التي نعطيها خمسين ريالا في الشهر، ولا يوجد تحديد واضح لساعات عملها الذي يبدأ في الفجر ولا ينتهي إلا قرب منتصف الليل، والتي لا نقبل بحالٍ من الأحوال أن تجلس معنا على المائدة لتناول الغداء أو العشاء، والتي يمنعها مخدومها من السفر إلى أهلها في إجازة قصيرة إلا بعد سنواتٍ طوال، والتي تنهرها ربّة البيت ليل نهار، ويتحرش بها "شباب البيت" إلا من رحم الله، والتي لا يُسمح لها حتى بتلفازٍ في غرفتها—هذه الخادمة ليست موظفة، بل عبدة।

تُرى هل فكّر أحدنا أن يساعد خادمته على تطوير قدراتها؟ على انتشال نفسها من الخدمة في البيوت إلى وظيفةٍ أفضل؟ هل فكّر أحدنا يومًا أن يوفر لها شيئا من التعليم؟ ربما دورة في لغةٍ أجنبية (غير العربية المكسرة طبعًا) أو دورة في تعليم الخياطة أو أي صنعةٍ أخرى يمكن للخادمة أن تتكسب منها بعد انقضاء خدمتها؟ أمّ أنّ ما نريده نحن هو أن تظلّ خادمة طوال عمرها؟

إن روح الإسلام لا تدعو فقط إلى إزاحة العبودية بمفهومها الحرفي، بل إلى تحقيق حرية الإنسان بمعناها الواسع، والتي يدخل من ضمنها حق التنمية الذاتية. وإن كنا نسعى إلى التمسك بهذه الروح، فلنفكر قليلا في إتاحة الفرصة للخدم أن يطوروا من أنفسهم، حتى لا يكونوا عبيدًا. 

الثلاثاء، 20 مارس 2012

ضعف انتشار الكتاب العماني: رأي في المشكلة واقتراح للحل


في حوارٍ قصير على "التويتر" أشار الناقد السعوديّ (محمد العبّاس) إلى أنّ "عُمان تمتلك منتجها الثقافي اللافت، ولكن لديكم مشكلة في تصدير المنتج وتسويقه"، وأقرَّه على ذلك أكثر من شخصٍ عماني بينهم كاتب هذه السطور، فكان أن أثار ذلك الحوار بعض الأفكار التي أطرحها في هذا المقام. والسؤال الأساسي الذي تنطلق منه المناقشة هو: لماذا لا يحقق الكتاب العماني انتشارًا وحضورًا بارزًا على المستوى الخليجي أو العربي؟

يرى البعض أنّ أحد أسباب ذلك هو قلة المؤلفين والكتب العمانية مقارنة بالدول الأخرى، خاصة تلك التي تصدر عن كبريات دور النشر العربية. وهذه الملاحظة صائبة في تفسيرها للوضع خلال العقود الماضية، إلا أنّ الأمر قد تغير كثيرًا في السنين الأخيرة، فمعرض الكتاب الفائت خير شاهدٍ على وفرة الإصدارات العمانية الجديدة في عدة مجالات وعن مختلف دور النشر في العالم العربي. وبعد أن كان أغلب المؤلفين العمانيين يطبعون كتبهم بأنفسهم، توجد الآن عدّة قنواتٍ لنشر الكتاب العماني في داخل عُمان كإصدارات وزارة التراث والثقافة، أو عبر دورٍ عربية كبرى كمشروع البرنامج الوطني لدعم الكتاب، والجمعية العمانية للكتاب والأدباء، ومشروع أقاصي، وحتى المبادرات الشخصية من بعض المواقع الإلكترونية العمانية مثل سبلة عمان ومجلة الفلق ومدوّنة ساعي البريد.

ويرى البعض أيضًا أنّ أحد الأسباب هو غياب دار نشرٍ عمانية تقترب في مستواها من دور النشر العربية الكبيرة من حيث إقبال المؤلفين، وتنوّع الإصدارات، ومستوى التوزيع، وجودة الإخراج، الخ. يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ وجود مثل هذه الدار سوف يسوّق اسم الثقافة العمانية وبالتالي المثقف العماني وإصداراته. وبرغم ما في هذا الرأي من صواب، إلا أنّ وجود الدار ليس عاملا حاسمًا أو ذا تأثير كبير؛ فكبار الكتّاب الخليجيين المعروفين الآن على المستوى العربي لم يذع صيتهم من خلال دور نشرٍ في بلادهم. في الواقع لم توجد دور نشرٍ خليجية بارزة إلا منذ عهدٍ قريب فقط (كالعبيكان في السعودية ومدارك في الإمارات والدوسري في البحرين).

وهناك من يرى أنّ المؤلف العماني يفتقر إلى الثقة بنفسه وبقدرته على المنافسة، وهذا رأيٌ لا يستند على دليلٍ موضوعي، ولا يكاد يتكئ إلا على التواضع المعهود لدى "الشعب" العماني. كما أنّ فاقد الثقة لا ينشر إصداراته عن دور نشرٍ كبرى (مثل دار الآداب، ومركز دراسات الوحدة العربية، والجمل، والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، ومؤسسة الانتشار العربي، وغيرها). إنّ المشكلة الحقيقية لا تبدو في نقص المؤلفين أو الإصدارات أو الثقة، ولا غياب دار النشر العمانية، فهذه قد يُنظر إليها على أنها تمثلات للمشكلة وليست أسبابها. ما أقترحه هنا كتشخيصٍ للمشكلة هو غياب "صِناعة الكتاب"، والمقصود بهذا المصطلح وجود منهجٍ واضح ومدروس لإنتاج الكتاب العماني الناجح وتسويقه.

رأي في الحل
فيما يلي بعض الملامح التي يمكن أن يتصف بها منهج "صناعة الكتاب".

أولا: صناعة مشاريع الكتب. إنّ للناشر دورًا هامًا لا يُلتفت إليه عادة في تأريخ الكتابة والنشر، ألا وهو انتقاء أفكارٍ للكتب أو "اختراعها"؛ فالناشر الناجح لا يكتفي بانتظار ما يجود به الكتّاب من مخطوطات، وإنما هو الذي يقترح عليهم أفكارًا مميزة للتأليف. الكاتب يُتقن صَنعة الكتابة والتأليف، بينما الناشر هو الأقرب إلى سوق الكتاب وذائقة القرّاء ومعرفة الفجوة التي يُمكن سدّها بكتابٍ جيد. يحدث هذا دائمًا في دور النشر الغربية، حيث يدرس الناشر سوقًا محددة في مجالٍ محدد ويستنتج المؤلفات التي ستلقى قبولا في تلك السوق، فيقوم باستكتاب كاتبٍ ما لإنجاز الكتاب. دار النشر ليست مؤسسة ثقافية خيرية وإنما شركة تجارية، وعلى الناشر أن يسعى إلى توفير الإصدارات التي تحقق الأرباح. يذكر موقع النادي الثقافي أنّ البرنامج الوطني لدعم الكتاب يطرح "فكرة الاستكتاب في محاور معينة ذات أهمية قصوى أو ندرة في التأليف، حتى يسهم البرنامج في سدّ حاجة معرفية تتسم بالضرورة البالغة"، ولعلنا نذكر إعلان البرنامج قبل حوالي عامين عن رغبته في استكتاب مؤلفين لإنجازٍ كتب للجيب. لا يذكر الموقع ما حدث لمشروع الاستكتاب هذا، وإذا كانت الكتب التي صدرت عن البرنامج هي نتيجة الاستكتاب فيجب إعادة النظر في مواضيعها تماشيًا مع النقطة الثالثة المبينة أدناه، وإن لم يصدر شيء من الاستكتاب حتى الآن فيمكن التخطيط لمشاريع كتبٍ ناجحة يُستكتب من أجلها الكتّاب العمانيون، أدباء كانوا أو باحثين أو صحفيين. ولا بد لمن يتصدى لهذا الأمر أن يعرف سوق الكتب جيدًا في الدول العربية حتى يختار ما يناسب وما يحقق الربح و/أو الانتشار. ولا بدّ له من أن يجيد اقتناص الفرص التأليفية كإقناع شخصيات عامة بتأليف كتب. مثلا، يُمكن لشخصيةٍ سياسية كمعالي يوسف بن علوي أن يكتب كتابًا سياسيًا ناجحًا، ويُمكن لشخصيةٍ رياضية مثل علي الحبسي أن يكتب في المستقبل سيرة شائقة، ويمكن للأديب أحمد الفلاحي أن يكتب ذكرياتٍ مثيرة للاهتمام عن مثقفي الخليج في الستينيات والسبعينيات، هذا بالإضافة إلى العديد من الباحثين والأكاديميين العمانيين الذين يمكنهم تأليف كتبٍ من وحي تخصصاتهم للقارئ العام. وفي حال تبنى البرنامج الوطني لدعم الكتاب سياسة صارمة "نخبوية" في اختيار مواضيع الكتب نظرًا لطبيعته الرسمية، يُمكن تعزيز المشروع بجهةٍ خاصة.

ثانيًا: صِناعة المؤلف. الكتابة في واقع الأمر حتى الأدبية منها لا تعتمد كليًا على "الوحي" و "الإلهام"، وإنما على مهارات "الصَنعة". هناك الآن عشرات الكتب والدورات التدريبية في هذا المجال، ويُمكن الاستفادة منها في تأهيل جيلٍ من الكتّاب المتمكنين من صنعتهم. وهذا لا يلغي بالتأكيد ضرورة وجود مَلَكة الكتابة، إلا أنّ الكاتب المحترف بحاجة إلى مهارات إضافية في أساليب الكتابة وطرق البحث وإدارة الوقت، الخ.

ثالثًا: استهداف القارئ العربي. المتتبع للإصدارات العمانية (غير الأدبية) يُلاحظ انحصار أغلبها على المواضيع المتعلقة بعُمان في شتى المجالات، ولذلك فقارئها يكون في العادة عُمانيًا أو مهتمًا بالشأن العماني. ويجدر القول إنّ هذه ظاهرة تنسحب أيضًا على الترجمة(1). وفي القائمة التي توردها مدوّنة "أكثر من حياة" للكتب العمانية (غالبًا الصادرة عن دور نشر عربية) يتبيّن أنّ هناك ثلاثة كتب فقط لا تتعلق بعمان من الكتب (غير الأدبية) العديدة التي صدرت في نهاية 2011/بداية 2012(2). في حقيقة الأمر هذه ظاهرة تستحق إفراد دراسة مطوّلة مستقلة للوقوف على العوامل التي تدفع العمانيين إلى حصر أنفسهم في التأليف أو الترجمة فيما يتعلق بعمان فقط، إلا فيما ندر. وهكذا فإنّ انتشار الكتاب والكاتب العماني سيتطلب في المرحلة المقبلة توجيه الجهد نحو التأليف في مواضيع ثقافية وفكرية عامة تهمّ القراء في كل مكان(3).

رابعًا: استغلال الكتب العمانية التي أثبتت نجاحها في الخارج. كتاب "عين وجناح" لمحمد الحارثي فاز بجائزة ابن بطوطة للرحلة عام 2003، ومجموعة "الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة" لسليمان المعمري فازت بجائزة يوسف إدريس للقصة القصيرة عام 2007، ورواية "الأشياء ليست في أماكنها" لهدى الجهوري فازت بجائزة الرواية في مسابقة الشارقة للإبداع العربي عام 2008، ومسرحية "ما حدث بعد ذلك" لهلال البادي فازت بجائزة الهيئة العربية للمسرح عام 2009، وروايتا "تبكي الأرض يضحك زحل" و"سيدات القمر" لعبدالعزيز الفارسي وجوخة الحارثي تأهلتا لجوائز روائية عربية رفيعة المستوى. هذه فرصٌ ذهبية لم تُستغل كما يجب، فكان يمكن للمؤسسات الثقافية العمانية اقتناء نسخ هذه الكتب ثم إصدار طبعةٍ جديدة عن دورٍ معروفة تحمل على غلافها عبارات تسويقية مثل "فائز بجائزة ابن بطوطة" أو "الرواية الفائزة بجائزة الشارقة" الخ، وكان ذلك كفيلا بزيادة مبيعاتها. ولم يكن اختيار المؤسسة الثقافية صائبًا حين أصدرت طبعة جديدة من رواية هدى الجهوري لا تحمل إشارة على الغلاف إلى فوز الرواية، ولم تصدر عن دار الساقي أو الآداب مثلا وإنما عن "كتاب نزوى" الذي يشتكي العمانيون أساسًا من سوء توزيعه في عمان نفسها.

خامسًا: الترويج للكتاب والكاتب العماني محليًا. ولا يُقصد من ذلك مجرد توفير نسخٍ من الكتاب العماني في المكتبات العامة والتجارية-فتلك مرحلة مبدئية يجب تجاوزها سريعًا- بل إبراز المُنتَج الثقافي العماني الجيد وتحبيب القرّاء فيه، وهو أمرٌ شديد الأهمية. في حواراتٍ مع طلاب في مؤسسات التعليم العالي في عُمان، وفي نقاشاتٍ عبر الإنترنت، ترددت جملة "ما أقرا للكتّاب العمانيين"، وذلك إما عن عدم معرفة بهم، أو إشارة إلى "الترفع" عنهم. وفي مقالٍ حول الكتاب العماني يستشهد (د. زكريا المحرمي) بدراسةٍ أجرتها باحثة في عُمان أظهرت أنّ "16% من فتيات المرحلة الثانوية لا يحبذن اقتناء الكتاب العماني! وأنّ 34% [من عينة البحث] يعتبرون عنوان الكتاب العماني غير جذاب، وهذه النسبة تتضاعف عند طالبات المرحلة الثانوية إلى 50%، و 41% غير راضين عن تصميم الكتاب العماني..."(4). هذه المؤشرات على محدوديتها تمثل حالة سلبية خطيرة. ليس شرطًا بطبيعة الحال لبدء نجاح الكاتب أن يكون مقدرًا في بلده، بيد أنّ هذا التقدير خطوة هامة لتسويقه بصورةٍ أسرع، كما أنّ الكاتب يحتاج إلى تشجيعٍ من محيطه القريب كي يزداد عطاؤه. عند تصفّح المنتديات الثقافية السعودية أو الكويتية (أو حتى حسابات التويتر) يُلاحظ المرء إشاراتٍ إيجابية كثيرة ومتكررة إلى كتبٍ سعودية وكويتية، سواء على مستوى النخبة أو العامة، مما يشجّع على تصفح تلك الكتب على أقل تقدير. ليس المطلوب اتباع شوفينية لتمجيد الإصدارات العمانية لمجرد كونها عمانية، وإنما المطلوب انتقاء الجيد وإبرازه بما يستحق.

سادسًا: ترويج الكتاب خارجيًا. والمسؤولية هنا تقع بطبيعة الحال على الناشر الذي يُفترض به أن يروّج "سلعته" جيدًا، إلا أنّ المؤلفين أنفسهم أو المؤسسة الرسمية (كالنادي الثقافي) يُمكن أن تتعاون مع الناشر. أما تحديد الطُرق الأنجع لترويج الكتاب فيعتمد على دراسة أنماط "الاستهلاك" في سوق الكتب. تفتقر الدول العربية إلى مثل هذه الدراسات، ولكن يمكن الاستشهاد بدراسةٍ غربية هنا للتمثيل لا أكثر، وهي دراسة أعدّها موقع "Book Facts Online" عام 2006، وتبيّن من خلالها أنّ دوافع شراء الكتب في بريطانيا ليست في الحقيقة كما نتصور؛ إذ جرى الاعتقاد بأنّ عروض الكتب في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وترشيحات الكتب لها الدور الأكبر في حثّ القارئ على اقتناء الكتاب. أظهرت الدراسة أنّ النسبة الأعلى كانت لتوفر الكتاب في المكتبات (35%) وبعد ذلك اسم المؤلف (14%) ثم وجود معلومات تخصصية في الكتاب (13%)، في حين حققت ترشيحات الكتب (10%)، ولم يصل تأثير عروض الكتب في المجلات والصحف أكثر من (4%) وذِكر الكتب في التلفاز والإذاعة (1%)(5).

تلك أمثلة لأبرز القواعد التي يمكن أن تستند عليها الاستراتيجية الوطنية لصناعة الكتاب العماني، والأمرُ ولا شكّ يتطلب نقاشًا جادًا هادفًا بين جميع الأطراف ذات العلاقة من مسؤولين وكتّاب وناشرين وخبراء تسويق وباحثين. وأخيرًا، فإن هذا المقال لا يسعى إلى إنكار ما يُبذل من جهود طيبة لدعم الكتاب العماني كان آخرها إطلاق جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، وإنما يهدف إلى تشجيعها والبناء عليها وتعزيزها بأفكار جديدة.

الإحالات
1- زكريا المحرمي (2008) "هموم الكتاب العماني"، منشور على موقعه الإلكتروني: http://www.drzak.net/index/?p=47
2- الغالبية العظمى من الكتب المترجمة (غير الأدبية) التي أنجزها عمانيون تتعلق بعمان، باستثناء كتاب "ملاحظات في السينماتوغرافيا" بترجمة عبدالله حبيب، و "إعلام جديد..سياسة جديدة" بترجمة عبدالله الكندي. للاستزادة انظر: أحمد حسن المعيني (2010) "الترجمة في عصر النهضة العمانية" في كتاب "وفاء الكلمة"، عن لجنة معرض مسقط للكتاب.
3- كتاب "تحليقات طفولية في فضاء الكتابة الإبداعية: دراسة تحليلية وفنية لقصص الأطفال" لليلى البلوشي، وكتاب "مساجلات نقدية" لعبدالله العليان، وكتاب "ثقافة الطفل بين الهوية والعولمة" لعزيزة الطائي. هذا الإحصاء غير دقيق بالطبع، ولكنه يبقى مؤشرًا.
4- من الأمثلة على ذلك: "مساءلات سينمائية" لعبدالله حبيب، و "دراسات في الاستعارة المفهومية" لعبدالله الحراصي، و"نافذة على القصة القصيرة الفارسية الحديثة" ترجمة وإعداد د. إحسان صادق اللواتي، و "المعنى خارج النص" للدكتورة فاطمة الشيدي، و "الاستشراق بين الإنصاف والإجحاف" لعبدالله العليان.
5- Giles Clark and Angus Phillips (2008) Inside Book Publishing, London: Routledge, p. 169.