الأحد، 13 مايو 2007

تشارلز


قصة: شيرلي جاكسون
ترجمة: أحمد حسن المعيني


في اليوم الذي بدأ فيه (لوري) الدراسة في الروضة، ودّع البنطال القطني ذا الحمالتين، والصديريّات، وارتدى الجينز الأزرق والحزام. راقبته في أول صباح ذاهبًا مع ابنة الجيران الأكبر منه، مدركة أن مرحلة من حياتي قد انتهت، فطفل الحضانة بصوته الرقيق تحوّل إلى شخص مختال طويل البنطال نسيَ أن يقف عند زاوية المنزل ليلوّح لي مودّعًا.

عاد إلى المنزل بالطريقة نفسها، بدويّ الباب نفسه، والقبعة الملقاة على الأرض، وفجأة يأتي صوته الخشن صاحئا: "ألا يوجد أحد هنا؟"

على الغداء تحدّث بوقاحةٍ إلى أبيه، ودلق حليب أخته الرضيعة، وذكر أن معلّمته قالت بأنه يُفترض بنا ألا نذكر اسم الرب عبثًا.

سألته عَرَضًا: "كيف كانت المدرسة اليوم؟"، فأجاب "جيدة". وسأله والده: "هل تعلمتَ شيئًا؟". نظر لوري إلى والده ببرود وقال: "لم أتعلم ولا شيء". فصححّتُ له قائلة: "أي شيء. لم أتعلم أيّ شيء".

قال لوري وهو يمسح الزبدة على رغيف خبز: "ولكنّ المعلّمة عاقبت ولدًا"، ثم أضاف وفمه مليء بالطعام: "لأنه كان مشاغبًا". فسألته: "ماذا فعل؟ ومن هو؟". فكّر لوري ثم قال: "اسمه تشارلز. كان مشاغبًا. عاقبته المعلّمة وجعلته يقف في زاوية الفصل. كان شديد الشغب". سألتُ مجددًا: "ماذا فعل؟" إلا أن لوري انسلّ من فوق كرسيه، وأخذ كعكة ثم تركنا بينما كان والده يخاطبه.

في اليوم التالي قال لوري على الغداء فور جلوسه: "تشارلز كان سيئًا اليوم أيضًا". علت وجهه تكشيرةٌ كبيرة وهو يقول: "اليوم ضرب تشارلز المعلّمة". "يا إلهي" قلتها منتبهة إلى اسم الرب، "لا بد أنه عوقب مجددًا، صحيح؟". أجاب لوري: "أكيد". ثم قال لوالده: "انظر للأعلى". سأله والده ناظرًا للأعلى: "ماذا هناك؟". فقال لوري: "انظر للأسفل. انظر إلى اصبعي. هيا بسرعة..كم أنت غبي". وبدأ يضحك بجنون.

سألتُ بسرعة: "لماذا ضرب تشارلز المعلّمة؟". قال لوري: "لأنها حاولت أن تجعله يلوّن بأقلام تلوين حمراء. أراد تشارلز أن يلوّن بالأخضر فضربها ثم عاقبته وقالت لنا ألا نلعب مع تشارلز، ولكن الجميع لعب معه".

في اليوم الثالث- وقد كان الأربعاء من أول أسبوع- لوّح تشارلز بنوّاسة على رأس صبية فأدماها، فأجلسته المعلّمة في الفصل طوال وقت الفسحة. في يوم الخميس أوقفته المعلّمة في زاوية الفصل خلال حصة القصص لأنه كان يضرب بقدميه على الأرض. في يوم الجمعة حُرم تشارلز من الكتابة على السبورة لأنه كان يرمي بالطباشير.

في يوم السبت قلت لزوجي: "هل تعتقد أن الروضة شديدة التشويش على لوري؟ كل هذه الخشونة والأخطاء اللغوية، ويبدو أن لذلك الولد تشارلز تأثيرًا سيئًا عليه". قال زوجي مُطَمْئنًا: "سيكون كل شيء على ما يرام. لا بد أن يوجد أشخاص في العالم مثل تشارلز. قد يصادفهم اليوم كما يصادفهم غدًا".

وفي يوم الإثنين عاد لوري إلى المنزل متأخرًا، ومُحملا بالأخبار. صاح وهو يقترب: "تشارلز". كنتُ أنتظر بقلق على الدرجات الأمامية للمنزل. قال وهو يصعد التلة: "تشارلز كان سيئًا اليوم أيضًا". قلتُ فور اقترابه: "ادخل، فالغداء جاهز".

سأل بإلحاح وهو يتبعني: "أتعرفين ماذا فعل؟. لقد صرخ عاليًا في المدرسة حتى أنهم أرسلوا ولدًا من الصف الأول ليقول للمعلّمة يجب عليها أن تُسكت تشارلز، لذا أبقتْهُ في المدرسة بعد انتهاء الحصص. وهكذا بقي جميع الأطفال ليشاهدوه".

سألتُ: "ماذا فعل؟"، فقال لوري وهو يصعد على كرسيه أمام الطاولة: "كان جالسًا هناك فقط".

- مرحبا بابي يا بابي..يا ممسحة الترابي..

قلتُ لزوجي: "أُبقيَ تشارلز في المدرسة بعد انتهاء الحصص".

- الكل جلس معه.

سأل زوجي لوري: "كيف يبدو هذا التشارلز؟"

- ما اسم ابيه؟

قال لوري: "إنه أكبر مني. وليس لديه أية ممحاوات ولا يرتدي حتى معطفًا".

مساء الاثنين كان أول اجتماع أولياء الأمور مع المعلّمين، ولم يمنعني من الحضور سوى أن طفلتي أصيبت بنزلة برد. كنتُ أرغب بشدة في لقاء والدة تشارلز. في يوم الثلاثاء قال لوري فجأة: "اليوم كانت هناك زيارة لمعلّمتنا في المدرسة".

فسألتُ وزوجي بصوت واحد: "والدة تشارلز؟". قال لوري بامتعاض: "لاااا. كان رجلا، وقد جعلنا نؤدي بعض التمارين. هكذا". قفز من كرسيه ثم قرفص ولمس أصابع قدميه. عاد بكآبة إلى كرسيه والتقط شوكته ثم قال: "تشارلز لم يؤدي التمارين حتى". قلت بحماس: "لا بأس. ألم يرغب تشارلز في تأدية التمارين؟". فقال لوري: "لااااا. كان مشاغبًا جدًا مع صديق المعلّمة، حتى أنه لم يُسمح له بأداء التمارين". قلتُ: "مشاغبًا مرة أخرى؟".

قال لوري: "لقد ركل صديق المعلّمة. طلب صديق المعّلمة من تشارلز أن يلمس أصابع قدميه كما فعلتُ للتو، فركله تشارلز".

سأله والده: "ماذا تعتقد أنهم سيفعلون بشأن تشارلز؟". هزّ لوري كتفيه وقال: "أظنهم سيطردونه من المدرسة".

كان يوما الأربعاء والخميس اعتياديين: تشارلز صرخ في حصة القصص وضرب ولدًا في بطنه فأبكاه. وفي يوم الجمعة بقي تشارلز بعد انتهاء الحصص مرة أخرى وبقي معه الأطفال الآخرون.

ومع حلول الأسبوع الثالث من الروضة أصبح تشارلز عُرفا في أسرتنا: كانت الطفلة تشارلزًا عندما بكت طوال الظهيرة. ارتكب لوري تشارلزًا عندما ملأ عربته بالوحل وسحبها على أرضية المطبخ. حتى زوجي، عندما اشتبك مرفقه بسلك الهاتف وأطاح بالهاتف ومنفضة السجائر والمزهرية من على الطاولة، قال بعد دقيقة: "كان ذلك تشارلزيًا".

خلال الأسبوعين الثالث والرابع بدا أن هناك تغييرًا إصلاحيًا في تشارلز. أخبرنا لوري على الغداء في يوم الخميس من الأسبوع الثالث بتجهم: "كان تشارلز جيدًا جدًا اليوم وأعطته المعلّمة تفاحة".

قلت: "ماذا؟؟" وأضاف زوجي بحذر: "تقصد تشارلز؟". قال لوري: "تشارلز. قام بتوزيع أقلام التلوين على الأطفال وجمع الكتب لاحقا من الجميع، وقالت المعلّمة بأنه كان خير مُعاون". سألتُ باستنكار: "ما الذي حدث؟". قال لوري هازا كتفيه: "كان مُعاونًا لها. هذا كل شيء".

سألتُ زوجي تلك الليلة: "هل يمكن أن يكون هذا حقيقة؟ ذلك الأمر مع تشارلز؟ هل يمكن أن يحدث شيء كهذا؟". قال زوجي بشكّ: "انتظري وسنرى. عندما يكون شخص كتشارلز، قد يعني الأمر أنه يخطط لشيء ما".
بدا أنه كان مخطئًا. لأكثر من أسبوع كان تشارلز مُعاونًا للمعلّمة. كل يوم كان يوزّع بعض الأشياء في الفصل ويجمعها. ولم يعد يبقَ أحدٌ بعد انتهاء الحصص.

قلت لزوجي ذات مساء: "اجتماع أولياء الأمور والمعلّمين الأسبوع القادم. سأرى والدة تشارلز هناك". قال زوجي: "اسأليها ماذا حدث لتشارلز. أودّ أن أعرف". فقلت: "أودّ أن أعرف أنا أيضًا".

في جُمعة ذاك الأسبوع عادت الأمور كما كانت. سأل لوري على طاولة الغداء بصوت يشوبه قليل من الخوف: "أتعرفان ما فعل تشارلز اليوم؟ قال لطفلة أن تقول كلمة، وقالتها، فغسلت المعلّمة فم الطفلة بالصابون بينما كان تشارلز يضحك".

سأله والده بغير حكمة: "أي كلمة؟" فقال لوري: "عليّ أن أهمس بها لك، فهي بذيئة جدا". نزل من كرسيه وذهب إلى والده. احنى والده رأسه وهمس له لوري بمرح. اتسعت حدقتا والده وسأل: "هل قال تشارلز للطفلة أن تتلفظ بهذا؟". قال لوري: "قالتها مرتين. قال لها تشارلز أن تقولها مرتين". فسأل زوجي: "وماذا حدث لتشارلز؟". قال لوري: "لا شيء. كان يوزّع أقلام التلوين".

في صباح الاثنين تخلى تشارلز عن الطفلة وقال الكلمة البذيئة بنفسه ثلاث أو أربع مرات، وغُسِل فمه بالصابون في كل مرة. وقد رمى بالطباشير أيضًا.

رافقني زوجي ذلك المساء إلى الباب بينما كنت متجهة إلى اجتماع أولياء الأمور. قال: "ادعيها لشرب الشاي بعد الاجتماع. أريد أن أراها". قلتُ برجاء: "إن كانت موجودة". فقال زوجي: "ستكون هناك. لا أتصور أنهم يعقدون اجتماعًا كهذا دون حضور والدة تشارلز".

في الاجتماع جلستُ متململة، أتفحص كل وجهٍ كهلٍِ مرتخ، أحاول أن أحدد أيها يخفي سرّ تشارلز. لم يبد أي وجه منهكًا بما فيه الكفاية. لم تقف واحدة في الاجتماع لتعتذر عن سلوك ابنها، ولم يذكر أحدٌ تشارلز.

بعد الاجتماع بحثتُ عن معلّمة لوري في الروضة. كانت تحمل صحنًا وكوب شاي وكعكة شوكولاتة. وكنت أحمل صحنًا وكوب شاي وكعكة خطميّ. ناورنا حول بعضنا بحذر وابتسمنا.

قلتُ: "كنت متلهفة للقائك. أنا والدة لوري". فقالت: "نحن كلنا مهتمون بلوري". قلت: "أنا متأكدة من أنه يحب الروضة. إنه يتحدث عنها طوال الوقت". قالت بتكلف: "كنا نعاني من مشكلة التكيّف في أول أسبوع أو أكثر، ولكن الآن هو متعاون بشكل جيد. مع بعض الانتكاسات بالطبع". قلت: "عادة ما يتكيف لوري بسرعة شديدة. أظنّ الأمر متعلق بتأثير تشارلز عليه".

- تشارلز؟

قلت ضاحكة: "نعم، لا بد أن لديك الكثير من المتاعب في الروضة، مع تشارلز".

- تشارلز؟ لا يود لدينا تشارلز في الروضة.

الجمعة، 13 أبريل 2007

حياة وولتر ميتي السرّية


قصة: جيمس ثيربر
تقديم وترجمة: أحمد حسن المعيني

يُعدّ جيمس ثيربر (1894-1961) أحد أشهر الكتاب الساخرين في أميركا في القرن العشرين، وأشهر رسّام صور متحركة في تاريخ مجلة النيويوركر. ذاع صيته من خلال قصصه القصيرة وقصص الحيوانات القصيرة على غرار قصص اليوناني عيسوب. يجيد ثيربر استخدام السخرية اللاذعة في إيصال رسائل فكرية وأخلاقية عديده من خلال كتاباته، والتي يجمع فيها بين الاسلوب السهل الذي يفهمه الكبار والصغار، والفكرة العميقة التي تضخّ أسئلة في ذهن القارئ لا يمكنه إغفالها رغم طرافة الموقف المرسوم. أما قصة "حياة وولتر ميتي السرية" فهي أشهر قصصه على الإطلاق، ولا تكاد تخلو أنطولوجيا للأدب الأمريكي منها. وقد ظهرت في السينما لاحقًا عام 1947. هذا وقد أدت شعبية هذه القصة دخول لفظة "الميتية Mittyesque" اللغة الإنجليزية لتعبر عن السلبية المتدرعة بالهروب من الواقع إلى الخيالات البطولية. كعادته يستخدم جيمس ثيربر في هذه القصة طرافته وأسلوبه المتميز في اللعب بالألفاظ، حيث يبتكر أحيانًا ألفاظا جديدة تخدم المشهد الكوميدي الذي يرسمه. جديرٌ بالذكر أن هوليوود بصدد إنتاج فيلم جديد مقتبس من هذه القصة.



جاء صوت القائد هادئا كرقائق ثلجٍ تتكسر: "سوف نجتازها". كان مرتديًا زيّه الكامل مع قبعته البيضاء ذات الشرائط العديدة، مائلة بعبثٍ على عينه الرمادية الباردة. هتف الملازم جليد: "لن نستطيع، سيدي. أرى إنها تتحول إلى إعصار". قال القائد: "لم أسألكَ رأيك، ملازم جليد. أشعل مصابيح الطاقة، زد السرعة إلى 8500. سنجتازها". وارتفع هدير المحرك طق-بوقيطق-بوقيطق-بوقيطق-بوقيطق. حدّق القائد في تشكّل الثلج على نافذة الطيّار. تقدّم وأخذ يحرّك عددًا من الأقراص المعقدة، ثم هتف: "شغلّوا المحرك الاحتياطي رقم 8"، وكرر خلفه الملازم جليد: "شغّلوا المحرك الاحتياطي رقم 8". وتابع القائد: "أقصى طاقة للبرج رقم 3. أقصى طاقة للبرج رقم 3". نظر أفراد الطاقم الذين انهمكوا في مهماتهم على الطائرة الحربية المائية ذات الثمانية محركات إلى بعضهم البعض وابتسموا قائلين: "سيجاوز العجوز بنا"، "العجوز لا يخاف الجحيم"...

"ليس بهذه السرعة! إنك تقود بسرعةٍ عالية جدًا...". جاءه صوت زوجته بحدة "لماذا تقود بهذه السرعة؟".
همهم وولتر ميتي ونظر إلى زوجته، على المقعد بجانبه بدهشةٍ عارمة. كانت تبدو غير مألوفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكأنها امرأة غريبة صرخت فيه بين الناس. قالت: "وَصَلت سرعتك 55 ميلا. أنت تعرف أنني لا أحب أن أسرع لأكثر من 40 ميلا. وأنت وصلتَ إلى 55 ميلا". قاد وولتر ميتي سيارته باتجاه ووتربري في صمت، وطنين الطائرة (إس إن 202) وسط العاصفة الأسوأ في العشرين عامًا الماضية من تاريخ الطيران البحري يخفت في خطوط رأسه البعيدة العميقة. قالت السيدة ميتي: "ها قد عاد إليك توترك. إنه يوم من أيامك العصيبة. آملُ أن تدع الدكتور رينشو يكشف عليك".

أوقف وولتر ميتي السيارة أمام المبنى حيث تذهب زوجته لتصفيف شعرها. قالت له: "لا تنسَ أن تشتري حذاءً مطاطيًا بينما أصفف شعري". قال: "لست بحاجةٍ إلى حذاءٍ مطاطي". ردّت مرآتها اليدوية إلى حقيبتها، وقالت وهي تخرج من السيارة: "انتهينا من هذا الموضوع. لم تعد شابًا". ضَغَط على دواسة البنزين قليلا، فسألت: "ولماذا لست مرتديا قفازيك؟ هل أضعتهما؟". أدخل وولتر ميتي يده في جيبه وأخرج القفازين. لبسهما، ولكن بعد أن استدارت ودخلت المبنى ووصل بسيارته إلى إشارةٍ حمراء، خلعهما من جديد. صرخ شرطيٌ عند تغيّر لون الإشارة: "حرّك يا أخي"، فلبس وولتر ميتي قفازيه وحرّك سيارته. طاف بالسيارة في الشوارع دون هدفٍ لبعض الوقت، ثم طاف أمام المستشفى في طريقه إلى موقف السيارات.

"إنه المصرفي المليونير ويلنغتون ماكميلان"، قالتها الممرضة الحسناء. رد وولتر ميتي وهو ينزع قفازيه ببطء: "صحيح؟ من المسؤول عن الحالة؟" "الدكتور رينشو والدكتور بينبو، ولكن لدينا أخصائييَن هنا، الدكتور ريمينغتون من نيويورك والدكتور بريتشارد ميتفورد من لندن، وقد قدم بالطائرة". فُتح بابٌ في ممرٍ بارد طويل وخرج منه الدكتور رينشو. بدا ذاهلا ومنهكًا. قال: "مرحبا، ميتي. إننا نضرب أخماسًا في أسداس هنا مع حالة ماكميلان، المصرفي المليونير..الصديق الشخصي المقرّب لروزفلت. هناك تفنكشٌ في الجهاز القنوي. من الدرجة الثالثة. ليتك تلقي نظرةً عليه". فقال ميتي: "بكل سرور".

وفي غرفة العمليات وقف الأطباء لحظة للتعارف بصوتٍ هامس: "دكتور ريمنغتون، دكتور ميتي، دكتور بريتشارد ميتفورد، دكتور ميتي". قال بريتشارد ميتفورد وهو يصافح ميتي: "لقد قرأتُ كتابك حول مرض العقديات الشعرية. جهدٌ رائعٌ حقا". رد ميتي: "أشكرك". دمدم ريمنغتون: "لم أكن أعرف أنك موجود في أميركا يا ميتي. أفيُجلب الفحم إلى نيوكاسل مدينة الفحم؟ يأتون بي وبميتفورد إلى هنا من أجل حالة من الدرجة الثالثة!". فردّ ميتي: "هذا لطف منك". عندها بدأ جهازٌ ضخم معقد موصول بطاولة العمليات بعدة أسلاك وأنابيب بإصدار صوت طق بوقيطق بوقيطق بوقيطق. صاح أحد أطباء المستشفى: "جهاز التخدير الجديد يتوقف عن العمل. لا يوجد في شرق أميركا كله من يعرف كيف يصلحه". قال ميتي بصوتٍ هادئٍ خفيض: "اهدأ يا رجل". تقدّم نحو الجهاز، الذي أصبح يصدر صوت بوقيطق بوقيطق ويييق بوقيطق وييق. وبدأ يضغط بسلاسة على صفٍ من الأقراص اللامعة. ثم قال بسرعة: "أعطوني قلم حبر". أعطاه أحدهم قلم حبر. سحب مكبسًا خربًا من الجهاز وأدخل القلم مكانه، ثم قال: "سوف يسكّن الجهاز لعشر دقائق. أكملوا العملية". هرعت ممرضة وهمست لرينشو، ورأى ميتي وجه الرجل يشحب. قال رينشو بعصبية: "تبا، ظهرت بقتية. هلا توليت الأمر يا ميتي؟" نظر ميتي إليه وإلى بينبو الجبان المأخوذ، وإلى جهي الاختصاصيين العظيمين المضرّجين بترددٍ قاتم. قال: "كما تشاء". ألبسوه رداءً أبيض، ووضع قناعا على وجهه ولبس قفازين ضيقين، وناولته ممرضات بعض الأدوات ال...

"توقف يا صاح. انتبه للسيارة البويك". ضغط وولتر ميتي بقوة على الكابح. قال منظّم موقف السيارات وهو يتفحص ميتي: "أنت في المسار الخاطئ، يا صاح". غمغم ميتي: "يا إلهي..صحيح". وبدأ يخرج سيارته بحذر من المسار الذي كتب عليه "للخروج فقط". قال المنظّم: "اتركها هنا. سأبعدها وأوقفها". خرج ميتي من السيارة. "هييه، من الأفضل أن تترك المفتاح". تمتم ميتي وهو يعطيه مفتاح السيارة: "أوه. تفضل". دلف المنظّم إلى السيارة، أخرجها من المسار بمهارةٍ متعجرفة وأوقفها في المكان الصحيح.

قال ميتي لنفسه وهو يمشي على طول الشارع العام إنهم شديدو الغرور، ويظنون أنهم يعرفون كل شيء. حاول ذات مرة أن يفكّ سلاسل سيارته، خارج نيو ميلفورد، ولكنه لفها حول محور العجلات. اضطر رجل أن ينزل من سيارةٍ محطمةٍ ليفكها، شاب مكشر يعمل في الكراج. ومنذ ذلك الحين دائمًا ما تجعله السيدة ميتي يذهب إلى كراج ليفكوا السلاسل. في المرة القادمة، فكر بينه وبين نفسه، سأضع ذراعي في معلاق طبي. لن يكشروا في وجهي عندئذ. سأضع ذراعي اليمنى في معلاق وسوف يرون أنني لم أستطع نزع السلاسل بنفسي. ركل الثلج المتراكم على جانب الطريق وقال لنفسه: "حذاء مطاطي"، وبدأ يبحث عن محل أحذية.

وعندما خرج إلى الشارع مرة أخرى، والحذاء المطاطي في علبةٍ تحت ذراعه، بدأ وولتر ميتي يفكر في الشيء الآخر الذي طلبت منه زوجته أن يحضره. لقد قالت له مرتين قبل أن يتحركا من بيتهما إلى ووتربري. كان يكره هذه الرحلات الأسبوعية إلى المدينة، حيث دائمًا ما يخطئ. حاول أن يتذكر، كلينكس؟ مفرقعات؟ أمواس حلاقة؟ كلا. معجون أسنان؟ فرشاة أسنان؟ ثاني كربونات؟ مواد كاشطة؟ جماعات ناشطة؟ استسلم. ولكنها سوف تتذكر. ستسأله: "أين الماذا يُسمّى؟ لا تقل لي إنك نسيت الماذا يُسمّى؟" ومرّ بجانبه صبيّ جرائد يصيح بكلام حول محاكمة ووتربري.

"قد ينعشُ هذا ذاكرتك". جاء صوت وكيل نيابة المنطقة وهو يدفع بمسدسٍ ثقيل نحو ذاك الجسد الهادئ على منصة الشهود. "هل سبق ورأيت هذا من قبل؟". أخذ وولتر ميتي المسدس وتفحصه بأيدي خبير، ثم قال بهدوء: "هذا مسدسي من نوع ويبلي فايكرز 50 على 80". انتشرت غمغمة فرحة في قاعة المحكمة. وطرق القاضي بمطرقته آمرًا بالتزام الهدوء. قال الوكيل بنبرةٍ تثير الشك: "يبدو لي أن لديك خبرة في أي نوعٍ من الأسلحة، صحيح؟". صاح محامي ميتي: "أعترض على هذا السؤال. لقد أوضحنا أن المدعى عليه لم يكن بإمكانه أن يطلق تلك الطلقة. لقد أوضحنا أنه كان يرتدي معلاقا في ذراعه اليمنى في ليلة الرابع عشر من يوليو". رفع وولتر ميتي يده قليلا فسكت المحامون المتشاجرون. قال بهدوء: "بأي نوعٍ من المسدسات، كنت أستطيع قتل جريجوري فيتزهرست على بعد ثلاثمائة قدم بيدي اليسرى". علا هرج ومرج في القاعة. وعلت صرخة امرأة فوق الهرج والمرج، وفجأة كانت امرأة جميلة داكنة الشعر بين ذراعي وولتر ميتي. هجم وكيل النيابة عليها بوحشية، ومن دون أن ينهض وولتر ميتي من مقعده سدد لكمة إلى ذقن الوكيل صائحًا: "أيها الخسيس ال..."

قال ميتي: "بسكويت الجراء". توقف عن المشي وارتفعت مباني ووتربري من قاعة المحكمة الضبابية وأحاطت به من جديد. ضحكت امرأة مرّت بجانبه. قالت لصاحبتها: "قال بسكويت الجراء. ذلك الرجل قال لنفسه بسكويت الجراء". هرع وولتر ميتي في طريقه. دخل إلى سوبرماركت، ليس الأول في طريقه بل آخر أصغر منه في آخر الشارع. قال للبائع: "أريد بعض البسكويت للكلاب الصغيرة". ردّ البائع: "لديك ماركة محددة، سيدي؟". فكر أعظم رماة العالم بالمسدسات للحظة ثم قال: "مكتوب على العلبة تنبحُ الجراءُ له".

جال بخاطر ميتي وهو ينظر في ساعته أن زوجته ستنتهي من تصفيف شعرها خلال خمس عشرة دقيقة ، إلا إذا كانت هناك مشكلة في تجفيفه. لقد واجهوا مشكلات في تجفيفه من قبل. ولم تكن تحب أن تذهب إلى الفندق قبله، بل تريد أن يكون هناك قبلها ينتظرها كالعادة. وجد كرسيًا جلديًا كبيرًا في بهو الفندق في مواجهة نافذة، ووضع الحذاء المطاطي وبسكويت الجراء على الأرض أمام الكرسي. التقط نسخة قديمة من مجلة (ليبرتي) وغرق في الكرسي. نظر وولتر ميتي إلى صور الطائرات الحربية والشوارع المحطمة وقرأ "هل تستطيع ألمانيا غزو العالم من الجو؟"

قال الرقيب: "رشق المدافع قد أفزع الشاب راليه، سيدي". نظر النقيب ميتي إليه من وراء شعر أشعث، ثم قال بوهن: "خذه إلى سرير، مع الآخرين. سأطير لوحدي". قال الرقيب بقلق: "ولكن لا يمكن ذلك، سيدي. يتطلب الأمر رجلين للتعامل مع القاذفة، والقذائف تتطاير بقوة في الهواء. يقع سيرك فون ريتشمان بين هذا الموقع وسوليير". قال ميتي: "لا بد أن يقوم أحد بتدمير مخزون الذخيرة ذاك. أنا ذاهب. قليلا من البراندي؟" وصبّ شرابًا للرقيب ولنفسه. دوّت الحرب وعوت حول المخبأ وضربت بالباب. كان هناك تكسّر خشب وشظيات تطير في الغرفة. قال ميتي بلا اكتراث: "كادت". قال الرقيب: "إن سدّ النيران يتهاوى". قال ميتي بابتسامته الباهتة الزائلة: "نحن نعيش مرة واحدة أيها الرقيب. هل نعيش غيرها؟" وصبّ كأس براندي وعبّه. علّق الرقيب: "لم أر أحدًا يلزم شرابه مثلك يا سيدي. معذرة، سيدي". انتصب النقيب ميتي واقفًا، وربط مسدسه الويبلي فايكرز. قال الرقيب: "أربعون كيلومترا حتى نهاية الجحيم، سيدي". أفرغ ميتي كأس براندي أخير في جوفه ثم قال برقة: "على أية حال، كل شيء جحيم". ارتفع قرع المدفع. وكانت هناك ترترة المسدسات الآلية، ومن مكان ما جاء صوت البوقيطق بوقيطق بوقيطق من قاذفات اللهب المتوعدة. خرج وولتر ميتي من باب المخبأ وهو يدندن بأغنيةٍ فرنسية. استدار ولوّح للرقيب، "وداعًا...

شيء ما أصاب كتفه. "لقد بحثت عنك في كل مكان في الفندق. لماذا تختبئ في هذا الكرسي؟ كيف كنت تتوقع أن أجدك؟" هكذا جاءه صوت السيدة ميتي. أجاب وولتر ميتي بغموض: "الأشياء تتهاوى". قالت السيدة ميتي: "ماذا؟ هل أحضرت الماذا يُسمى؟ بسكويت الجراء؟ ماذا في هذا الصندوق؟" قال ميتي: "حذاء مطاطي". "ألم تستطع ارتداءه في المحل؟" قال ميتي: "كنتُ أفكر. ألا يمر ببالك أبدًا أنني أفكر أحيانًا". نظرت إليه وقالت: "سأقيس حرارتك عندما نصل إلى البيت".

خرجا من الأبواب الدوّارة ذات الصفير الباهت المضحك. كان عليهما اجتياز صفين من المباني ليصلا إلى موقف السيارات. وعند الصيدلية على الزاوية قالت: "انتظرني هنا. لقد نسيت شيئًا. لن أتأخر أكثر من دقيقة". تأخرت أكثر من دقيقة. أشعل وولتر ميتي سيجارة. بدأت السماء تمطر، تمطر مطرًا نصف متجمد. استند إلى جدار الصيدلية يدخن..وضع كتفيه على الجدار وألصق كعبيه. قال وولتر ميتي بازدراء: "فلتذهب عصابة العينين إلى الجحيم". مجّ نفسًا أخيرًا من سيجارته وألقى بها بعيدًا. بعدها، بالابتسامة الباهتة الزائلة التي تلعب على شفتيه، واجه فرقة الإعدام. منتصبًا بلا حراك، فخورًا بنفسه وبنظرة ازدراء، وولتر ميتي اللامهزوم، الغامض حتى النهاية.