تناقل العديد من العمانيين بالأمس في شبكات التواصل الاجتماعي خبرَ الإعلان عن طرح تخصص العلوم السياسية في جامعة السلطان قابوس وتغيير مسمى كلية "التجارة والاقتصاد" إلى "الاقتصاد والعلوم السياسية"، وكان من الواضح أن الإحساس العام هو السعادة بهذا التوجه رغم تشكك البعض وتحفظهم إلى أن تتضح معالم التخصص الجديد. في كل الأحوال أعتقد أنها خطوة ممتازة، إذ لا بدّ للجامعة الكبرى في عُمان أن تسعى لطرح تخصصاتٍ هامةٍ كهذه، ومن محاسن الصدف أن نقاشًا جرى في موقع "تويتر" قبل الإعلان بيوم أو يومين حول غياب تخصصات الفلسفة والعلوم السياسية في الجامعات العمانية. نحن في عُمان بحاجةٍ إلى جيلٍ يمتلك وعيًا سياسيًا يسهّل عليه استيعاب وتحليل ما يحدث في العالم الذي غدا مفتوحًا بلا أية قيود، ومن الأفضل أن يتشكل هذا الوعي السياسي بشكلٍ علمي ومنهجي رصين. بالأمس كنتُ أقول في نفسي: يجب أن نقدّم التحية للجامعة على هذه الخطوة التي ما كان يجب أن تتأخر أكثر من ذلك.
أما اليوم فقد شعرتُ بانزعاجٍ بعد قراءة التغطية الصحفية التي نُشرت في جريدة عُمان حول المؤتمر الصحفي الذي تم الإعلان فيه عن طرح التخصص الجديد، ولستُ متأكدًا ما إذا كانت هذه التصريحات قيلت حرفيًا كما هي مكتوبة أم أن الصياغة قد تغيّرت مع التحرير الصحفي. إن كانت قِيلت هكذا، فلا بدّ للمسؤولين في الجامعة أن يعيدوا النظر بجدية في طريقة خطابهم للإعلام، خاصة وأن تصريحاتهم تمثّل المؤسسة الأكاديمية الأكبر في السلطنة. وهنا سأعلق سريعًا على إجابتين تفضل بهما الدكتور نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية وخدمة المجتمع، وهو المكلّف برئاسة فريقٍ يقدّم تصورًا لإعادة هيكلة كلية "التجارة والاقتصاد" وإعداد برنامج العلوم السياسية. وعسى أن يتقبل ملاحظاتي هذه بصدرٍ رحب، رغم أنه في رأيي يستحق-على هذه التصريحات- نقدًا لاذعًا.
أولا: حينما سُئل نائب الرئيس عن مدى حاجة سوق العمل إلى هذا التخصص قال: "نظرًا للتوجيهات السامية لا بد من وجود حاجة ملحة وضرورية، إلا أنه لا يوجد لدينا في الوقت الحالي تصور عن طبيعة الوظائف التي يمكن أن يشغلها خريجو هذا البرنامج...". الجزء الأول من الإجابة (بحرفيّته) يعكس مصيبة كبرى ويشكّل للقارئ صدمة حقيقية، إلا أنني سأحسن الظنّ وأقول بأنّ التعبير قد خان نائب الرئيس، وأنه أراد القول بأنّ توجيهات جلالة السلطان لا بدّ أن تكون قد جاءت بعد دراسةٍ ومقترحاتٍ من مستشارين ذوي كفاءة وخبرة. أما الجزء الثاني من الإجابة فمن الخطأ أن يصدر عن مسؤول. أتساءل هنا كيف لجامعةٍ أن تُعلن عن طرح تخصصٍ ما وهي لا تملك أي تصورٍ عن الوظائف التي سيشغلها الخريجون؟ لنقل إنّ الأمر في حقيقته ليس كذلك، لأنّ الخبر المنشور يذكر قيام الجامعة بدراساتٍ بعد تلقي الأوامر السامية، ومن الطبيعي جدًا أن أية دراسة مبدئية لا بد أن تتطرق إلى مخرجات التخصص والمهارات التي ستكتسبها، والحيّز الاجتماعي والمهني الذي ستشغله. أريد فعلا أن أحسن الظنّ، إلا أنّ بقية الإجابة تزيد الأمر تعقيدًا حين يقول نائب الرئيس: "إلا أنه لا توجد لدينا رؤية حول ما هي طبيعة الخريج ولكننا بدأنا في التشاور مع الجهات المعنية التي من الممكن أن توظّف الخريج بها". أتفهّم أن لا تكون هناك رؤية نهائية كاملة، ولكن القول بأنه لا توجد رؤية حول طبيعة الخريج فهذه مشكلة، وأقلّ ما يُمكن أن يُفهم منها هو أنّ الجامعة تسارع إلى "تطبيق الأوامر" دون أن تعرف ماذا تفعل. في مؤتمرٍ صحفي ينتظر منه المجتمع أن يعرف إجاباتٍ واضحة لا يصحّ أن تظهر الجامعة بخطابٍ غامضٍ كهذا. ولا بدّ أن نعترف للجامعة بحسن التدبير فيما يختص بالتشاور مع سوق العمل، فهذا التعاون أصبح أمرًا تدعو إليه معظم أدبيات التعليم العالي وتصميم المناهج
ثانيًا: حينما سُئل نائب الرئيس عن المناهج والجامعات التي ستعتمد عليها الجامعة في تدريس هذا التخصص قال بأن: " هناك مصدرين أساسيين سيتم الاعتماد عليهما في برنامج العلوم السياسية وهم النهج السياسي الحكيم للسلطنة الذي لا بدّ أن يكون جزءًا متأصلا في هذا البرنامج والخبرة العالمية من معارف ومهارات...فنحن متوجهون إلى المجتمع والسياسة الحكيمة للسلطنة كمنهج". مع شديد احترامي لسيادة نائب الرئيس، إلا أنّ هذا الكلام لا يصحّ أن يصدر عن مسؤول في مؤسسةٍ أكاديمية، ولا يشير إلى أية معرفةٍ بتخصص العلوم السياسية. كيف تحكم على نهج السلطنة بأنه حكيم وتفرض هذا الحُكم على الطلاب قبل تدريسه؟ لماذا لا بدّ أن يكون جزءًا متأصلا في البرنامج؟ وكيف للسياسة العمانية أن تكون جزءًا "متأصلا" دون أن يكون لدينا منظرون سياسيون أصلا؟ هل نحن بصدد تدريس مرحلةٍ متقدمة من منهج "التربية الوطنية"؟ ليس من حقّ الجامعة أن تفعل ذلك، خاصة وأنّ أحد أهداف دراسة العلوم السياسية هو القدرة على تحليل السياسات ونقدها، لا تمجيدها. كنتُ أتوقع من نائب الرئيس أن يكون قد اطّلع على أيّ منهجٍ متّبع في العالم، ويشير إلى تدريس مواد مثل "مبادئ العلوم السياسية" و"القانون الدولي" و "الأيديولوجيات السياسية" و "حقوق الإنسان" و "العلاقات الدولية" و "علم الاجتماع السياسي" و "القضايا الدولية الراهنة" إضافة إلى السياسات الداخلية. نعم، أتفهم تمامًا أن تشعر الجامعة بالامتنان للتوجيهات السامية، ولكن ذلك لا يعني أن تسخّر التخصص لتمجيد سياسات الحكومة، فهذه ليست وظيفته.
أخيرًا، هذا ليس نقدًا للتخصص الجديد فحتى الآن لا تُعرف ملامحه، ولكنها ملاحظات على الخطاب الإعلامي الذي لم يكن موفقًا أبدًا من جانب نائب رئيس الجامعة.