الخميس، 1 سبتمبر 2016

نوعٌ آخر من المساحة الآمنة



نوعٌ آخر من المساحة الآمنة
بقلم: تِدْ گَبْ
ترجمة: أحمد حسن المعيني
----
[المساحةُ الآمنة مُصطلحٌ يُراد به البيئة التعليمية التي لا تسمح أبدًا بأيّ نقدٍ أو تعبيرٍ ينطوي على تحقيرٍ للأقليّات أو أصحاب الميول الجنسية المختلفة، لكي يشعر هؤلاء أنهم في مأمن من الاضطهاد]

في المحاضرة الأولى من مقرّر الكتابة غير الأدبية الذي سيبدأ الأسبوع القادم في الكلّية سأقول لطلابي إنّ "هذا الصفّ حَرَمٌ مُقدّس لحرّية الرأي". بهذا الإعلان أبدأ كلَّ فصلٍ دراسي، وهي عادة لم أخلفها منذ ثلاثين عامًا. ولكن ما المقصود بتلك العبارة؟. تعني ببساطة أنّ الطالب في هذا الصفّ يمكنه أن يقول أيّ شيء يريده.
       حتمًا سيسأل أحد الطلاب: "أي شيء؟"، موحيًا بما قد يحدث من سوء تصرّف، وتوتّر.
-      نعم، أيّ شيء.
فإن أرادوا أن يتلفّظوا بالكلمة الإنگليزية النابية التي تبدأ بحرف "F" فلهم ذلك (ولكي أكون صادقًا فإنني أفضّل هذه الكلمة على الاستخدام المضجر لكلماتٍ مثل "like" و "you know"). وبإمكانهم أيضًا أن يستخدموا تلك الكلمة العنصرية التي تبدأ بحرف "N" أو أية كلمة أخرى تفيد استحقار عِرقٍ ما أو جنسٍ أو جماعة إثنيّة.
       حين أقول ذلك سأسترعي انتباههم. لا أعرف ما إذا كنتُ أنتهك قواعد الكلّية أم لا، لكنّ الأكيد أنني أصبحتُ خارج "المساحة الآمنة"، ولا بأس في ذلك. فأنا أريد أن أكون خارج المساحة الآمنة، وأريد للطلّاب كذلك أن يكونوا خارجها.
       في نهاية المطاف هذا مقرّرٌ للكتابة، ولا ينبغي العبث بالكلمات؛ فللكلمات تَبِعاتٌ [غير آمنة]. إنْ كنتَ تريد استخدام كلمةٍ ما، أيّ كلمة، فلا بأس، ولكن لا بدّ أن تكون مستعدًا لقبول ما يتبعها. لا أقصد أنني  سأوبّخك، لكنني لن أسارع إلى إنقاذك أيضًا. ليس هذا مجرد درس في قوّة الكلمات فحسب، بل هو كذلك درس في الديمقراطية وحرية التعبير والمسؤولية.   
       الكلماتُ خطيرةٌ طبعًا، لكنّها لا تساوي خطورة المحاولات لقمعِها، سواء أجاء ذلك القمع من الحكومة أم من العميد، كما أنّ الكلمات على خطورتها فإنها لا تساوي ضرر الرقابة الذاتية. أعرفُ أنّ بعض الزملاء والطلاب لا يتّفقون معي في آرائي هذه (رغم أنّ أحدًا لم يشتكِ قطّ)، لا سيّما في عصر المطالبات بالمساحات الآمنة (safe spaces) وتحذيرات المحتوى الصادم (trigger warnings) وقوانين الاضطهاد المصغّر (microaggression) وقوانين التعبير. لستُ مُحافظًا رجعيًا، وإنما أنا لِبْراليٌّ من الطراز القديم، تلميذ من تلاميذ جون ستِوَرت مِلْ وبِرْتْرَنْد رَسِلْ الذي عَنوَن أحد كتبه في مظهرٍ من مظاهر التحدّي: مقالات غير محبوبة
       على أنني أختلفُ مع برترند رسل في أمر واحد؛ إذْ قال إنّ "جميع الحركات تتجاوز الحدّ"، وهو محقٌّ في أغلب الأشياء، ولكنْ ليس فيما يتعلق بحرية التعبير. في هذا الأمر لا يوجد شيء يجاوزُ الحدّ، فبمجرّد أن تضع سقفًا على التعبير تخنقُ الخيال. يقول أحد كتّابي المفضّلين إلْوِنْ برُوكس وايت: "في الدولة الحرّة من واجب الكُتّاب أن لا يكترثوا بالواجب". لطالما أحببتُ هذه المقولة، لكنني أعتقدُ أنها تستوجب استدراكًا؛ فثمّة واجب: أن تكون صادقًا مع نفسك.   
       قد يبدو ما أقوله هدّامًا أو من هَوى النفس. وَلْيَكُن. فجوهرُ حرية التعبير والفنّ أن يكون العقلُ الذي يطرح الكلمةَ طليقًا وغافلًا عن نتيجتها. وهذا يقتربُ جدًا من حدود اللامسؤولية (من وجهة نظر السلطة الخارجية على الأقل)، لكنّ هذه هي الحدود عينها التي ينبغي أن ينشأ فيها التعبيرُ والفنّ إن أُريد لهما الكمال.   
       ولكن لحظة. ألا يناقضُ هذا ما قلتُه قبل لحظاتٍ من أنّ الأمر سيكون درسًا في التزام المرء بالمسؤولية عن كلامه؟. بلى، هو تناقض فعلًا، لكنّه تناقضٌ لا ينتقص من صواب الحجّة. هي علاقة جدليّة تبثّ الروح في الديمقراطية والفنّ؛ فالوفاءُ النَزِقُ للحقيقةِ مُترعٌ بالمخاطرة والالتزام معًا. التعبيرُ في حدّ ذاته هو الذي ينبغي أن يكون في المساحة الآمنة، سواء أكان ذلك على مستوى الصفّ أم داخل الطالب نفسه.
       لو تلفّظ الطلاب في صفّي بشيءٍ جارح وإنْ كان تعبيرًا عنصريًا خفيًّا أو سافرًا (وهذا لم يحدث حتى الآن) فعليهم أن يستملكوا كلماتهم، ويتهيّؤوا للدفاع عنها، ويكونوا مستعدّين لقبول العاصفة التي قد تنشأ عن ذلك. وإنْ دعتْ الضرورة قد أتدخّل، لكنني لن أدين أحدًا بتجاوز الحدود ولن أنقذ أحدًا. هذه طبيعةُ الديمقراطية وحرّية التعبير، والتي هي في اللغة الإنگليزية (كلام مجّاني = free speech) لفظة مغلوطة، لأن التعبير لا يكون مجانيًا بل عادةً ما يكون له ثمن باهظ.
       إنّ فرض الحدود على الكلمات خطرٌ على الفنّ وتقويضٌ لمبادئ الديمقراطية، ونحن الذين نقف في مقدّمة الصف نشكّلُ (بوعيٍ أو دون وعي) نموذجًا للديمقراطية. هذا هو الدرس الأشمل لكلّ محاضرة. طريقة تصرّفنا، والقيود التي نفرضها، والأسلوب والطرق التي نتبنّاها، وتعاملنا مع الخلافات، والتمرّد والتحدّي، كلّ ذلك جزءٌ من درسٍ لا يُذكر في توصيف المقرّر أو الهدف المتوخّى منه، لكنّ أهميته أكبر منهما. وكما يُدرك الآباءُ والأمهات في وقتٍ متأخّر جدًا، فإنّ الشباب يتشرّبون وينسخون، لا أقوالنا فقط بل كذلك سَيرنا وسلوكنا وإيماءاتنا، فهذه هي الأشياء التي تعبّر عن قِيَمنا المثلى التي نتمسّك بها. نحنُ في الحقيقة ننقلُ الأفكار لا شعوريًا على نحوٍ أكبر مما نعتقد. فإنْ تصرّفنا وكأنّ الناس لا بدّ أن يخافوا من الكلمات، فسوف يخافون منها.
       وإنْ آمنّا بالديمقراطية فعلينا أن نؤمن بأنها بطبيعتها تصحّح نفسها. علينا أن نؤمن بأنّ الناس أحرارٌ في أنْ يردّوا علينا أو يهاجمونا أو يتجاهلونا أو يُعرضوا عنا. بيد أنّ هناك فرقًا جوهريًّا بين إعراض المجتمع والعقاب الرسميّ، بين العقوبات التي يفرضها زملاؤك وبين أيدي الدولة الثقيلة، سواء أكانت هذه الدولة حكومةً أم جامعة. ينبغي أن يُترك الإجراء التصحيحيّ للفرد، لا للمؤسسة. وبذلك تبقى القوّة حيث ينبغي أن تكون، مع المواطنين. وفي الصفّ التعليمي تكون مع الطلاب.         
       إنْ كان الطلاب بعد كل هذه السنين قد ألفوا التعامل مع السلوك غير الشائع، واحترام الآخرين واحترامي (وقد فعلوا)، فلماذا أثير المشكلات وأصرّ على توضيح سياستي المتعلّقة بحرية التعبير؟. أهي مجرّد لفتة تعليمية لا معنى لها؟.
       لا. إنّ النطق بحقّ حرية التعبير في حدّ ذاته مفيد. فمجرّد المعرفة به تملأ الصفّ بالحياة وتحرّر العقل وتسمح له بالتجوال أينما يريد وتحثّ الطلاب على التأمّل في ديناميكيات التعبير غير المقيّد، بدلًا من اللجوء إلى التوصيفات المسبّقة الآمنة لدى أولئك الذين يرتعشون خوفًا مما قد يتلفّظ به الآخرون.    هل يعرّض هذا الطلاب من الأقلّيات والنساء والمثليين والمتحوّلين جنسيًا إلى الشعور بالقلق؟. هل يخلق بيئةً خطيرة يصعب فيها التعلّم وتستحيل فيها الراحة النفسية؟. لا يمكنني ولستُ مخوّلًا بالإجابة نيابةً عن هؤلاء جميعًا، لكنني كيهوديّ جرّب في سنوات دراسته معاداةً سافرةً للساميّة وتهجّمًا من زملائه ومدرّسيه، أدركتُ أنّ هذا النوع من التعبير بقدر ما هو مؤلم إلا أنه أتاح لي أن أعرف الناس الذين كانوا معادين للساميّة، وأتاح لي (إن أردتُ) أن أناقشهم وأُسائل عقولهم على الأقل إن لم أستطع تغييرها. فالتظاهر بأنّه لا توجد ذرّة من التعصّب فينا جميعًا، وأننا نعيش في مجتمع تجاوز العنصرية وكراهية المثلية والتعصّب ضدّ الجنس الآخر، يستلزمُ تعطيلًا للعقل لا يفعل شيئًا سوى أنّه يُطيل من أمد السموم الاجتماعية الموجودة أصلا. ونحن ندفع ثمنًا باهظًا جدًا لهذا الوهم.            
       عودًا إلى موضوع المقرّر الدراسي، أقول إنّ الكتابة غير الأدبية ليست معنيةً فقط بالدّقة بل بالصدق أيضًا، وليست معنيةً بزُخرف الكلام عن الحياة الأميركية بل بجروحها المفتوحة أيضًا. والتحكّم باللغة يخنق هذا المسعى.
       بالتعبير عن أفكارنا ومشاعرنا (النبيلة والخسيسة) نسيرُ على درب التقدّم الثقافيّ ونُبدي مستوى إيماننا ببعضنا وبأمّتنا، ونستطيع الترويج للمبادئ الديمقراطية والفنّية التي نثمّنها. لا يوجد كلام أقوى من المكتوب إلا الكلام المقموع.  
إذًا، قل ما تريد ومرحبًا بك في المحاضرة.


*تِد گَب أستاذُ الصحافة في كلية إمرسن ومحاضرٌ زائر في جامعة براون. من بين كتبه أمة الأسرار: التهديد على الديمقراطية والأسلوب الأميركي في الحياة (2007م).
*نُشر هذا المقال في موقع (The Chronicle of Higher Education) بتاريخ 30 أغسطس 2016م.