الأربعاء، 5 يناير 2005

رواية عمانية بقلم أمريكي




قبل فترةٍ وقعت بين يديّ رواية بعنوان (العاصفة الرملية) للروائي الأمريكي (جيمس رولينز)، والذي لا أحسب أن أيًا من رواياته قد تُرجمت إلى العربية بعد. ولا يعود السبب في ذلك إلى قلة إنتاجه، أولا لأن قلة الإنتاج أو كثرته لا تكفل للكاتب شهرةً أو تمنعها، والدليل الشهرة العالمية التي يتمتع بها حاليا (دان براون) مؤلف "شيفرة دافنشي" رغم أن رواياته لا تتعدى الأربع روايات. ربما يعود السبب إلى عدم انتشار شعبية الخيال العلمي/البوليسي في الوطن العربي بعد، وربما لعدم شهرة الكاتب خارج أمريكا أصلا.

إذن، ما الذي دفعني إلى إضاعة وقتي في قراءة رواية جديدة لم يكتب عنها أحد، من أربعمائة وست وأربعين صفحة، لكاتبٍ لا أعرفه؟ دفعني إليها شيءٌ واحد فقط، وهو أن الرواية عمانية، لا نسبة إلى كاتبها، بل إلى مكان أحداثها وشخصياتها، وكون الشخصية الرئيسية في القصة عمانية. قتلني الفضول. ماذا قد يريد كاتبٌ أمريكي من الأراضي العمانية حتى يجعل أحداث روايته فيها؟ وماذا قد تفعل شخصية عمانية في رواية أمريكية؟ أهي محاولة غربية لتشويه صورة العرب والمسلمين- كما سيحب أصحاب نظرية المؤامرة الغربية تفسيرها- في قالبٍ أدبي؟ وازداد فضولي عندما علمتُ بأن الرواية تنتمي إلى جنس الخيال العلمي، فهل سأشاهد في الرواية أطباقا طائرة "تنحشر" في "سِكك" سوق الظلام؟ أم مخلوقات فضائية قررت الاستيلاء على مخزون الحلوى العمانية؟ وبدأتُ أقرأ.

تدور أحداث الرواية في كلٍ من أمريكا، ولندن، ومسقط، وصلالة، وشصر. وتبدأ في لندن حيث يُسمع دويّ انفجار قوي في متحف لندن دمّر مجموعة الآثار الشرقية القديمة التي كانت تُشرف عليها الدكتورة العمانية (صفية آل ماس)، والتي أنفقت عليها الليدي (كارا) أموالا طائلة. ومع مجرى التحقيقات يتبيّن أن هناك سرّا غامضًا وراء ذلك الانفجار، يمتدّ إلى عُمان، وبالتحديد أوبار. أحيا هذا الحدث الكبير في نفس الليدي (كارا) رغبة شخصية قديمة في اكتشاف سبب اختفاء أبيها في صحراء عمان، فتأخذ معها الدكتورة (صفية) والدليل الرحالة المستكشف (أوماها) إلى عُمان سعيًا وراء اكتشاف السر. ويرافق أولئك أيضًا عميلان من الحكومة الأمريكية. ورغم أن كلا منهم له دوافعه الخاصة وسرّه الذي يبحث عنه، إلا أنهم يتجهون جميعًا دون إدراكٍ منهم إلى اكتشاف أسرارٍ علمية وتاريخية تمتد إلى التاريخ الشرقي البعيد امتدادًا يصل إلى سيدنا سليمان عليه السلام. ويتطلب منهم اكتشاف هذه الأسرار حل بعض الألغاز في أماكن عديدة منها ضريح النبي أيوب وضريح النبي عمران. وتذكرني طريقة حل الألغاز في الضريحين بأسلوب (دان بروان) في رواية (شيفرة دافينشي) أو (ملائكة وشياطين). تتبدى أسرارٌ كثيرة جدًا ومفارقات وغرائب مع سير الأحداث، إلا أن ما يحدث على أعتاب بوابة أوبار على مشارف نهاية الرواية هو الحدث الجلل الذي –بلا شك- سيوقف شعر القارئ ذهولا أو يسقطه على أكتافه جنونا. ولا أريد من هذا المقال أن أفسد على قارئ الرواية متعته واكتشافه، فأكتفي بما ذكرت.

يمزج المؤلف (جيمس رولينز) في روايته هذه بين أسلوب الخيال العلمي وأسلوب الخيال التاريخي-جزئيا- وأسلوب المغامرة وأسلوب الرواية البوليسية. ويبدو أنه قد أعدّ بحثا تاريخيا وجغرافيا لا بأس به-رغم وجود بعض الثغرات- كي يتقن حبكة الرواية. ولستُ واثقا ما إذا كان قد زار السلطنة قبل كتابة روايته، إلا أنه يقدم وصفًا يكاد يكون دقيقًا لمواقع عديدة في عمان مثل كورنيش مطرح وسفينة شباب عمان وصلالة وشصر وقبري النبي عمران والنبي أيوب وبوابة أوبار المفقودة، إضافة إلى المعلومات الثقافية. ولعلّ المختصين في الآثار والجغرافيا والتاريخ أكفأ في الحكم على وصف المؤلف، إلا أن هناك أشياء لا تحتاج إلى مختصين للحكم على عدم دقتها. هناك مثلا مشهد العشاء الذي يتناول فيه الضيوف "الشواء" و"المكبوس" على حد وصف المؤلف، مع القهوة العمانية!

أول فكرة طرأت ببالي بعد أو أثناء قراءة الرواية هي لماذا لا نكتب نحن عن آثارنا وأساطيرنا في قصصنا ورواياتنا؟ لماذا يستغل أسطورة أوبار كاتبٌ أمريكي تفصله عن أوبار محيطات وصحاري وإرث تاريخي طويل، بينما نحنُ القابعون هنا لم نلتفت إليها؟ كيف فكّر هذا المؤلف-الطبيب البيطري- بتلك الحبكة الروائية عن أوبار ولم يفكر بها أحدنا؟ لماذا يخلّد غيرنا تراثنا؟

لقد قرأتُ الرواية عن فضولٍ ومسؤولية، وكلي أسفٌ أن آلاف العمانيين ممن لا يقرأون الإنجليزية عاجزون عن قراءتها. كم أتمنى أن تُترجم هذه الرواية إلى العربية ويقرأها كل عماني، لا لروعة الرواية أو أسلوب الكاتب الممتع-وهو ليس كذلك- بل لأنها تتحدث عن أسطورة وتاريخ وآثار عمانية. قد يجد القارئ صعوبة في مواصلة قراءة الرواية لأن الأحداث متشابكة ومشتتة، إلا أن الأسرار التي تتكشف بعد ذلك تزيد القارئ متعة ولهفة. هذا وقد يتململ القارئ من الكثير من شطحات الخيال، ولكنها أولا وأخيرا..رواية خيال علمي. باختصار، الرواية رائعة في جرأة فكرتها وخيال المؤلف وثقافته، وربما تحتاج إلى بعض اللمسات التي تجعلها مشوّقة أكثر، خصوصا في بدايتها.
أقدّم بين أيدي القارئ ترجمةً لمقطعٍ من الرواية لا يسمن ولا يغني من فضول، ولكن علّه يشوّق القارئ.

من رواية "العاصفة الرملية"

[الدكتورة صفية وكاساندرا في ضريح النبي أيوب]

سألت (كاساندرا): "ماذا تفعلين؟"
أجابت (صفية): "أعمل"، بطريقة أظهرت مقتها، فلم تعد تقوى الحرص على عدم إغضاب آسرتها، ثم فتحت الباب.
وتحت الباب كانت حفرة ضحلة مخبوءة عمقها ستة عشر إنشا، تم حفرها باستخدام حجر. وفي قاعها كان هناك أثران مطبوعان متحجران، أحدهما يمثل قدما بشرية كبيرة، والآخر يمثل حافر حصان.
سألت (كاساندرا): "ما هذا؟"
فأجابت (صفية): "لو عدتِ إلى القصة التي أخبرتك بها عن النبي أيوب، لتذكرتِ أن الله ابتلاه بمرضٍ شديد إلى أن أمره أن يضرب بقدمه الأرض فتخرج منها عينٌ شافية" وأشارت إلى أثر القدم في الحفرة الحجرية. "يُفترض أن هذا هو أثر قدم النبي أيوب حين ضرب بها الأرض". ثم أشارت إلى الفتحة في الأرضية "ومن هنا تفجر الماء الذي ينبع من مصدرٍ في قاع التلة".
فسأل (كين): "تعنين أن الماء صعد من أسفل التلة إلى أعلاها؟!"
- وكيف تكون معجزة إن لم يكن ذلك؟!
حدّقت (كاساندرا) في الحفرة ثم سألت: "وما دخل أثر حافر الحصان بالمعجزة؟"
أطرقت (صفية) وعقدت حاجبيها وهي تحدّق في أثر الحافر. كان الأثر متحجرًا أيضًا. "لا توجد قصة مرتبطة بهذا الأثر".
ولكن شيئًا ما كان يعتمل في ذاكرتها. آثارٌ متحجرة لحصانٍ ورجل. لماذا كانت هذه العبارة تبدو مألوفة؟
في هذه المنطقة من أولها لآخرها كان هناك ما لا يحصى عدده من القصص عن أناس أو وحوش تحولوا إلى أحجار. وبعض القصص كانت متربطة بأوبار نفسها. وأخذت تعصر ذاكرتها. هناك قصتان موجودتان في (ألف ليلة وليلة): "المدينة المتحجرة" و "مدينة النحاس"، أشارتا إلى اكتشاف مدينة صحراوية مفقودة، مدينة يكمن فيها شرّ خطير حتى أن حلت بها لعنة وجعلت سكانها يتجمدون في أماكنهم جزاء على ذنوبهم، وكانوا إما يتحولون إلى حجر أو نحاس، حسب الرواية. كانت تلك إشارة واضحة إلى أوبار. ولكن في القصة الثانية، لم يصل الباحثون عن الكنز إلى المدينة المدانة بالصدفة، بل كانت هناك علامات دلتهم إلى بواباتها.
وتذكرت (صفية) أهم علامة من هذه القصة: تمثال النحاس. وكان التمثال لفارس يمتطي حصانه ويرفع عاليا رمحا له رأس مغروز فيه. وعلى ذلك الرأس كان هناك نقش مكتوب، وكانت (صفية) تحفظ ما جاء في النقش عن ظهر قلب بعد أن قامت ببحث طويل عن الأساطير العربية من أجل (كارا). وقد جاء في النقش: أنتَ يا من قدمتَ إليّ، إن كنت لا تعرف الطريق إلى مدينة النحاس، فافرك يد الفارس، وسوف يستدير ثم يقف، وحيث يقف ابدأ مسيرك في الاتجاه الذي يدلك عليه، وسوف يقودك ذلك إلى مدينة النحاس.[يبدو أن هذه الرواية محرّفة نتيجة للترجمة الأجنبية، فحكاية مدينة النحاس في "ألف ليلة وليلة" لا تذكر رمحا لفارس ولا تذكر هذه العبارة، بل تشير إلى نقش على التمثال يأمر بفرك المسمار في سرة الفارس اثنتي عشرة فركة فينفتح الباب، المترجم].
يقودك إلى أوبار!
تأملت (صفية) في العبارة. تمثال نحاسي يستدير باللمس حتى يشير إلى العلامة التالية. تذكرت القلب الحجري، وكيف يصفّ نفسه مثل إبرة بوصلة فوق الهيكل الرخامي. كان التشابه غريبًا. والآن هذا! نظرت في الحفرة. رجل وحصان. متحجران.
لاحظت (صفية) كيف أن أثر القدم وأثر الحافر يشيران إلى نفس الاتجاه، وكأن الرجل كان يقوم ب"تمشية" مطيته. هل هذه هي العلامة التالية؟ قطبت جبينها عندما أحست بأن هذا الجواب شديد الوضوح شديد السهولة أكثر مما يلزم. أخفضت الغطاء ووقفت تفكر.
وقفت (كاساندرا) بجانبها وقالت: "في رأسك شيء ما".
هزّت (صفية) رأسها وهي حائرة في هذا اللغز. مشت رويدًا في اتجاه الأثرين، لتصل إلى المكان الذي اتجه إليه النبي مع حصانه. وانتهى بها المطاف إلى مدخل الموقع الأثري الصغير الواقع خلف الضريح، يفصله عن المبنى الأجدد زقاق ضيق. كان الحطام بلا هيئة واضحة يمثل أربعة جدران متقوضة بلا سقف، في وسطها مساحة من عشر أقدام. بدت وكأنها جزء من منزل أكبر حجمًا تهدّم منذ زمنٍ بعيد. تخطّت العتبة ودلفت إلى الداخل.
وبينما كان (كين) يحرس الباب، تبعتها (كاساندرا) إلى الداخل، ثم تساءلت:"ما هذا المكان؟".
"مصلى قديم". قالتها (صفية) وهي تنظر إلى السماء التي يقل نورها مع غروب الشمس، ثم تدوس على سجادة على الأرض.
اتجهت (صفية) نحو تجويفين في جدارين تم إنشاؤهما ليستدل المصلون على الاتجاه الذي يصلون فيه. وأدركت أن التجويف الأجدد منهما يشير إلى مكة، فاتجهت إلى الآخر الأقدم منه.
وأخذت تتمتم: "هنا صلى النبي أيوب، دومًا باتجاه القدس". باتجاه الغرب شمالا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق