أن تقرأ لـ(عبده خال) يعني أن تستعد لوجبةٍ دسمة من السواد والعذاب وتعرية النفس البشرية، ولعلّ أفضل وصفٍ يُقال في هذا الروائي ما قاله عنه الأديب (غازي القصيبي): "إن الإنسان الذي يستطيع أن يعذبك هذا العذاب كله، أن يشقيك هذا الشقاء كله عبر رواية، مجرد رواية، لا بد أن يكون روائيًا موهوبًا تحبه لموهبته، وتكرهه لأنه يذكرك بالمأساة الإنسانية". قال القصيبي هذا الكلام على غلاف الرواية الأولى لعبده خال، إلا أنه ما يزال ينطبق بامتياز على روايته الجديدة "ترمي بشرر" الصادرة عن دار الجمل عام 2009 في 416 صفحة.
يختارُ عبده خال في هذه الرواية أن يكون مباشرًا منذ البداية، فالعنوان المقتبس من الآية القرآنية المعروفة يشي بالكثير؛ حيث نعرف أن هناك قصرًا-كما هو واضح من صورة الغلاف- مقذوفًا من الأعلى، من تلك التي ترمي بالشرر. ومن صفحة الإهداء نعرف أن عبده خال ليس الراوي، فالذي كتب الإهداء شخصٌ اسمه (طارق فاضل) هو الذي سنستمع إلى القصة من خلاله. وتستمر هذه المباشرة في أول سطرٍ من الرواية، حيث يقول الراوي "خسِئَت روحي، فانزلقتُ للإجرام بخطى واثقة".
جاء تقسيم الرواية مختلفا وجديدًا، حيث تبدأ بـ"عتبة أولى" طويلة يبدؤها الراوي طارق بمشهدٍ هو في الحقيقة ليس أول القصة، بل من أواخرها. ويأخذنا طارق في بوحٍ مسترسل ليصل في نهاية العتبة الأولى إلى ما قبل المشهد الذي بدأ به. أما في "العتبة الثانية" فيسلط طارق الضوء على حقائق حول الشخصيات الرئيسة مستعيدًا تاريخها، وساردًا أحداثًا سابقة أو موازية، إلى أن يصل إلى ما قبل المشهد الأول. ومع اكتمال هذا المشهد تصل الحبكة ذروتها ثم تهبط قليلا، لترتفع في مفاجأة أخيرة صادمة تنتهي بها الرواية. بعد ذلك نجد فصلا إضافيًا بعنوان "البرزخ" يكتبه عبده خال، يتحدث فيه عن أحداث ومعلوماتٍ متعلقة بشخصيات الرواية وأحداثها، إما قبل دخولها عالمه السردي أو بعده.
يحكي لنا طارق قصة حارته البسيطة الملاصقة للبحر في جدة، والتي يسميها أهلها "الحفرة" أو "جهنم"، ويعيشون فيها حياة فقيرة قوامها الصيد والأعمال البسيطة. وفجأة مع دخول المدنية يُسوّر البحرُ لإقامة "كورنيش" عصري، ويظهر قبالة الحارة قصرٌ فخم جديد يحجب جانبًا كبيرًا من البحر عنها. وهكذا أصبح هناك عالمان: عالم الحارة الفقيرة بأناسها البسطاء وفقرها، وعالم القصر المهيب بأنواره الفخمة وخدمه وحرّاسه وسياراته الفارهة وأهله فاحشي الثراء. وبالمقارنة الظاهرية بين هذين العالمين لا يكون مُستغربًا أن يطلق أهل الحارة على القصر اسم "الجنة"، ولأنها جنة فالكل يحلم بدخولها، ورؤيتها، وشمّ روائحها، واقتطاف ثمارها. إذن تُصبح هذه "الجنة" حلمًا يسيل له لعاب الكبار والصغار معًا، على الرغم من تكبر سيد القصر، وحرصه على الفصل بين قصره وبين الحارة وكل ما يتعلق بها.
والشخص الوحيد الذي استطاع دخول "الجنة" هو (عيسى الرديني) الذي هرب من الحارة وسكن مكانًا وسطًا بين القصر والحارة، وأسدى خدمة كبيرة لصاحب القصر، استحق بسببها أن يدخله. يخطط عيسى لإدخال الآخرين من حارته إلى القصر، ليس بالضرورة لمساعدتهم، بل أيضًا للانتقام منهم. يُدخل صديقيه (طارق) و (أسامة)، ثم يتبعهما سيلٌ من رجال الحارة ما بين حارسٍ ومربي كلاب وقائد يخت وخادم. إذن فقد أصبح عيسى هو الطريق المؤدية للقصر بالنسبة لأهل الحارة الذين يحلمون بالدخول إلى الجنة، فإذا دخلوها تكشفت لهم حقيقتها، وأنهم دخلوا عبودية دنيئة لا مهرب منها، ولا هدف لها إلا إرضاء سيد القصر وشهواته وملذاته. ويصوّر لنا طارق صاحبَ القصر المتسلط المتطرف في شهواته وعقابه، والذي لا يقبل أن ينافسه أحد، ولا أن يخرج من طوعه أحد. يحكي لنا طارق في بوحٍ طويل عن حياته وأصدقائه وأهل الحارة قبل الدخول، ثم ما حدث له ولغيره بعد الدخول من سقوطٍ يتبعه سقوط.
من الثيمات القوية في هذه الرواية ثيمة الحب، حيث نجد العاشق المتيّم في شخصية أسامة الذي يظلّ محتفظًا بحب تهاني، وكذلك كمال مع سميرة، و في علاقة عيسى بموضي ، وحتى أم سيد القصر التي تحكي عن حبيب قديم لم تنسه، إلا أنّ الحب في جميع هذه الحالات غير متحقق، لا يقدّم إلا الألم. كما نجد ثيمة أخرى حاضرة هي رغبة الانتقام، متمثلة في سلوك العمة خيرية، وطارق بطل الرواية، وعيسى، ومرام، وأسامة، إلا أنّ رغبة الانتقام المشتعلة في كل هذه الحالات تنتهي بحرق أصحابها، بطريقة أو بأخرى. أما ما يمكن اعتبارها الثيمة الأساسية في الرواية فهي السقوط المؤدي للعبودية، حيث نجد الإنسان يعقد صفقة مع الشيطان كي يدخله الجنة، وسرعان ما يكتشف أنه وقّع صك عبوديته للشيطان، سواء أكان هذا الشيطان داخليًا أم خارجيًا. كلنا عبدٌ لضعفٍ ما فينا، ولكننا نادرًا ما نقف مثل طارق ونعرّي أنفسنا، بل نستمر في النظر إلى سوءات الآخرين. يقول طارق عن ذلك: "كل إنسان يتخفى بقذارته، ويخرج منها مشيرًا لقذارة الآخرين" (ص18).
شخصيات الرواية كثيرة، كالعادة في روايات عبده خال، إلا أنه يتميز بقدرته الفائقة على رسمها وتحريكها رغم كثرتها. وهنا تُقدم لنا الشخصيات على لسان طارق، لذا فهي تتفاوت في قوتها وتأثيرها بقدر احتكاكها بطارق وتأثيرها عليه، فمثلا نجد شخصية العمة خيرية أقوى وأكثر حضورًا بكثير من شخصية الأم التي لا نعرف حتى اسمها. كل شخصية تحمل تناقضاتها وصراعها مع نفسها ومع الآخرين، وربما كانت لأسمائها دلالات ومفارقات قصدها عبده خال. (طارق) هو السلاح "الفحل" الذي يستخدمه صاحب القصر لدكّ أعدائه وكسر رجولتهم، ويستمر طوال الرواية في أداء هذا الدور الدنيء من وقتٍ لآخر، إلا أنه لم يستطع أبدًا أن "يطرق" عدوّه الذي طالما تمنى قتله. من جهةٍ أخرى نجد العمة (خيرية) لا تحمل من اسمها شيئا، سليطة اللسان، حسودة، حقودة، تنصب العداء لطارق وأمه، وتظلّ تترصد لهما الأخطاء، بل وترشده إليها من حيث لا يعلم. أما (عيسى) فهو ذلك الذي يسكن بين "الجنة" و"جهنم" ويبدو دائمًا "المنقذ" و "المخلّص" الذي يقود أهل الحارة من دنيا الفقر والحاجة إلى جنة القصر، إلا أنه في حقيقة الأمر من يضعهم على عتبات السقوط. وأما (مرام) فهي التفاحة الفاتنة التي يشتهيها كل من تقع عليها عيناه، إلا أنّها في نهاية الرواية تصبح الشجرة الملعونة. ويبقى صاحب القصر المتسلط المتجبر دون اسم، يشير إليه طارق باسم "السيّد"، فهذه الكلمة أبلغ في وصفه من أي اسم. ويبدو هذا السيد وكأنه الشيطان نفسه، فهو الذي يحرّك الجميع لخدمته، وله نفوذ في كل مكان، ويرى ويسمع كل شيء، ويعيش عمرًا مديدًا بجبروته وكأن الموت لا يصل إليه!
أما لغة السرد فجاءت قوية بليغة، ما بين وصفٍ للأحداث، وتعليقٍ فلسفي عليها، وهو أسلوب يجيده (عبده خال)، حيث يمنحك متعة الحدث في تسارع، ثم يُسكرك بفقرةٍ وجدانية، فيؤرجحك هكذا بين الحدث واللغة الجميلة دون ملل. ولأنّ السرد كله يأتينا من خلال طارق فاضل، لا نتوقع أن يكون هناك خط زمني أفقي ثابت، بل هو كاستعادة الذاكرة، يلملم أجزاءً من هنا وهناك محاولا إعطاءك الصورة كاملة. برأيي نجح عبده خال جدًا في هذه النقطة، إلا أن القارئ يستغرب أن شخصًا بسيطًا تعليميًا وثقافيًا مثل طارق يمكن أن تكون له تلك اللغة القوية والملاحظات الفلسفية، إلا أن يكون عبده خال هو المتكلم، مثل: "الشهوة..هذه النار المشعلة من أول قطرة دم سفكت على الأرض، تحتاج دومًا إلى نفط الدم كوقود لمواصلة اشتعالها. شهوة، ودم، وضحية. تثليث معاكس للقداسة، ومعاكس لشرائع كل الديانات. هذا التثليث الموازي هو الملعب المقابل لإحداث الفعل، ومن ثم صناعة التاريخ" (ص18-19). يحتاج الكاتبُ إلى وعي مستمر أثناء الكتابة بضرورة فصل نفسه ولغته وفكره عن شخصياته، فالشخصية ليست بالضرورة هي الكاتب أو صوته. ويمكننا أن نضرب مثلا رائعًا بالكاتب البريطاني (مارك هادون) في روايته "الحادثة الغريبة للكلب في منتصف الليل"، وبطلها الطفل المصاب بالتوحد، حيث تشعر طوال قراءة الرواية بأن الذي يحدّثك هو فعلا طفل مصاب بالتوحد.
ونلاحظ أيضًا في هذه الرواية الاعتماد الكبير على السرد واجترار الذاكرة، بدلا من الحوار الذي لا يكاد يوجد، كما لا نجد طريقة ثابتة لاستخدام اللهجة المحكية في الحوار، حيث نجدها في مواضع نادرة ولا نجدها في بقية الرواية، دون سبب منطقي لذلك.
ربما أكثر ما يميّز هذه الرواية هو بناء شخصية الراوي، حيث يُشركك طارق في تطور شخصيته، ويُطلعك على دواخله وانحرافاته وسقطاته. ورغم أنك شاهدٌ على جميع ما اقترفه طارق من جرائم وآثام، إلا أنك لا تملك أن تكرهه، ولا أن تحبه. يظلّ شعورك محايدًا، كما ظلّ هو نفسه مُحايدًا وغير مبالٍ طوال أحداث الرواية، يشبه إلى حدٍ ما "ميرسو" في رواية "الغريب" لألبير كامو الذي ينقل لك عدوى اللامبالاة. أما ما نأخذه على هذه الرواية فهو انتشار الأخطاء اللغوية في أجزاء من الرواية، وكأن عبده خال قد أنهكته أحداث الرواية وشخوصها، فأرسلها إلى المطبعة فور انتهائه منها. ويدلّ على ذلك تضارب في اسم شخصية زوج الأم، حيث يقول لنا طارق في صفحة 108 بأن اسمه (جمال المهندس)، إلا أنه عندما يعود ليكمل حكاية أمه بدءا من صفحة 233 نجد أن اسمه (غيث المهند)!
رواية جديرة بالقراءة أكثر من مرة، وذلك للزخم الحكائي الموجود فيها، وللبناء السردي المميز الذي أقامه المؤلف، ولقدرته على أن يؤلم القارئ ويقززه ويستفزه ويجعله يتفكر في نفسه وفي تطوحه ما بين استهانةٍ بالسقوط، وبين عجز عن كبح الذات من الانزلاق المستمر. في النهاية نقول بأن الرواية استحقت أن تكون بين ست روايات تتنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2010.