رحل (محمد عابد الجابري)!
وهكذا خسرنا واحدًا من ألمع المفكرين العرب وأكثرهم ممارسة وإنتاجًا للفكر العقلاني والمنهجية البحثية الرصينة، ذلك المفكر صاحب السلسلة المهمة الشهيرة "نقد العقل العربي" وغير ذلك من الدراسات الكثيرة في التراث الإسلامي وفلسفة ابن رشد والفكر العربي والإسلامي المعاصر. من يقرأ للجابري يعرف أنه بصحبة رجلٍ يُتقن ترويض الفكرة والجملة، يقدّم لك أعتى الأفكار وأكثرها عمقًا في جملٍ بسيطةٍ واضحة. أعترف للقارئ الكريم بأنّ هذا المقال لا يرقى –كمًا ونوعًا- للحديث عن مفكر حقيقي مثل الجابري، ولكن ما أصبو إليه في حقيقة الأمر هو تقديم جانبٍ آخر من كتابات الجابري. المثقفون وأفراد النخبة من الوطن العربي يعرفون كتابات الجابري بوصفها إنتاجًا فكريًا فلسفيًا نقديًا ذا محتوى عميقٍ ثقيل بعض الشيء، ولذلك لا تنتشر كتبه كثيرًا بين العامة. بيد أنّ الجابري له بعض الكتب التي كتبها لـ"سلسلة الثقافة القومية" التي أصدرها (مركز دراسات الوحدة العربية)، وهي سلسلة من الكتب الموجّهة أساسًا للقارئ العام غير المتخصص، والشباب الجامعي الذي يحتاج إلى استيعاب القضايا الكبرى المتعلقة بالوطن العربي ككل. هي كتبٌ صغيرة بحجم الجيب، مكتوبة بأسلوبٍ بسيط واضح يسهّل استيعاب الفكرة تناقش قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والوحدة والهوية والتقانة والتنمية والتعريب والصراع العربي-الإسرائيلي إلى غير ذلك من قضايا الأمة العربية. شخصيًا أرى أنّ كل مكتبةٍ عامةٍ وجامعيةٍ في الوطن العربي ستقدّم خدمة كبيرة للشباب العربي بتوفيرها هذه السلسلة. اليوم نستعرض كتابًا من الكتب الأربعة التي كتبها الدكتور الجابري في هذه السلسلة، وهو كتاب "مسألة الهوية: العروبة والإسلام..والغرب" الصادر في طبعته الأولى عام 1995 وفي طبعته الثالثة التي بين يديّ عام 2006 في 197 صفحة.
يحتوي الكتاب على مدخلٍ وثلاثة أقسام يتضمن كل منها مباحث قصيرة في موضوع معين. أما المدخل فهو تقديم مميز وضروري للوقوف على أهداف الكتاب ومبررات البحث في مواضيعه. ويبدأ الجابري بالسؤال "ما العربي؟" فيبيّن أن هُوية العربي ليست واحدة، بل هي صورة تتحدد بحسب وعي الشخص والموضع الذي يرى تلك الصورة فيه، فالأوروبي الذي تتشكل معرفته من وسائل الإعلام الغربي يربط العربي بالنفط والإرهاب والعمالة المهاجرة، في حين ينظر العربي المقيم في الغرب للعمل أو الهجرة أو اللجوء السياسي إلى "العربي" بوصفه شخصًا مضطهدًا، أما العربي المشرقي فقد يعرّفه بأنه جزء من الأمة العربية التي تسبب الغرب وإسرائيل في تقسيمها وإضعافها، وأما العربي المغربي فقد يعتبر العربي مسلمًا يستغله الأوروبيون المسيحيون ويحاربونه في دينه. وبعد التحليل يتوصل الجابري إلى أنّ العربي هو أن يكون الإنسان "عروبيا" أي مهتمًا بالوحدة العربية وقضاياها ومستقبلها.
في القسم الأول من الكتاب يعرض المؤلف المشكلة الموجودة في الفكر العربي وهي تلك الأصوات التي تضع في إطروحاتها عن الهوية ثنائية العروبة/الإسلام بحيث يبدو أحدهما في مواجهة الآخر، وأنه يجب اختيار أحدهما ليكون المحدد الأساسي لهويتنا. ولا ينكر الجابري أن هناك أطروحات معتدلة تبرز التكامل بين الاثنين ونفي تناقضهما، من قبيل "العرب مادة الإسلام"، إلا أن ذلك في رأي الجابري لا يصل إلى عمق المسألة بل في الحقيقة ينحاز إلى العروبة ويمنحها الأولوية على الإسلام. ويناقش المؤلف إطروحات القائلين بعروبة الإسلام والأطروحات المضادة القائلة بعدم عروبته رغم عروبة القرآن والرسول، ويتبين أن هناك طرفًا يقدّم القومية، وطرفًا يقدّم الدين، وبأن ثنائية العروبة/الإسلام لا يمكن إيجاد حل وسط لها بسبب تكافؤ أدلة الطرفين. ولكن القضية الأساسية في رأي الجابري لا يجب أن تكون ترجيح طرف على طرف، بل إعادة النظر في جميع الآراء ومساءلتها.
بعد ذلك ينفذ الجابري إلى أصل المشكلة بقوله إن سوء التفاهم الحادث بين أصحاب الأطروحتين هو في حقيقته نتيجة لاختلاف المرجعية المعرفية لدى كل طرف؛ فأصبح كل منهما يرى العروبة والإسلام بشكل مختلف. في المرجعية التراثية يتحدد مفهوم "العربي" بالتعاريف اللغوية القديمة التي تجعل فصاحة اللسان هي المحدد للعروبة، وبالنسب التاريخي، وهكذا فإن من يفكر في مفهوم "العربي" من هذه المرجعية لا يستحضر "الإسلام" بالضرورة، فالإسلام شيء آخر أتى محلّ العروبة (الإسلام يجبّ ما قبله). والإسلام في هذه المرجعية دينٌ لا يمكن أن يوضع في ثنائية مقابل العروبة، لأن ما يوضع مقابل الإسلام لا بد أن يكون دينًا أو فلسفة منافسة. أما في المرجعية النهضوية في المشرق العربي فمفهوم "العربي" مرتبط بالعلاقة مع الآخر: التركي الذي يهدد العروبة بسياسة التتريك، والمستعمر الإمبريالي المسيحي الذي يهدد الإسلام، وهكذا لم يكن هناك تضاد بين العروبة والإسلام وإنما اجتهاد في تقرير أيهما يجب الذود عنه أولا. أما في المغرب العربي فكان الآخر واحدًا هو المستعمر الأوروبي المسيحي الذي يهدد الإسلام بعمليات التنصير والعروبة بتفريق البربر عن العرب، فأصبحت العروبة والإسلام شيئا واحدًا هو الهوية الوطنية التي يجب الحفاظ عليها. والإسلام تبعًا لهذه المرجعية يتخذ ثلاثة أشكال: الإسلام كنموذج مثالي، والإسلام التاريخي كما مارسه السلف، والحضارة الإسلامية، وجميع هذه الأشكال لا تصلح حقيقة لأن توضع في تقابل وتضاد مع العروبة. وبذلك يخلص الجابري إلى أن ثنائية العروبة/الإسلام لم تكن سوى قضية سياسية زالت وأصبحت الآن "قضية أيديولوجية مزيفة" (ص50)، وإذن لا معنى أبدًا لأن يُوضع الاختيار بين العروبة والإسلام.
وفي المباحث التالية يناقش الجابري أطروحات القومية والوحدة العربية مستنتجًا أنّ الدولة القطرية (المجزئة) أصبحت واقعًا دوليًا واجتماعيًا واقتصاديًا ونفسيًا لا يمكن معه الاستمرار في حلم الوحدة العربية الشاملة، كما يؤكد المؤلف على ضرورة ربط الديمقراطية بالفكر القومي، ثم ينقض الأطروحة القائلة بضرورة وجود دولة تكون قاعدة للوحدة العربية تتبعها جميع الدول الأخرى. بيد أنّ الجابري يعود ليؤكد على ضرورة الوحدة الجزئية التي تُبنى على أساس التعاون والتكامل وتحقيق المصالح والحاجات.
أما القسم الثاني فيتحدث عن المستقبل العربي، ويبدأ بتحديد أساسيات التفكير في المستقبل، حيث لا بد أولا من معرفة أن "كل تفكير مستقبلي هو في جزء منه، على الأقل، عبارة عن بناء علاقة جديدة مع ‘الآخر’، أعني الطرف المزاحم في الماضي والحاضر، أحدهما أو كليهما، فضلا عن كونه المنافس في المستقبل" (ص91)، وبأن تفكير العرب في المستقبل يستحضر دومًا صورًا من ماضيهم الحضاري، إلا أنّ هذا الاستحضار لا بد أن يرافقه استحضار لماضي الآخر (إسرائيل والغرب) أيضًا لمعرفة طريقة تفكيره في المستقبل ومزاحمتنا عليه. بعد ذلك يستعرض المؤلف نظرة إسرائيل (اليهود) إلى المستقبل حيث هو بالنسبة إليها مصير جماعي يتحقق بخلاص بني إسرائيل، في حين يعتقد الفكر المسيحي البابوي أن تجسد الإله في شخص عيسى (عليه السلام) بداية لتاريخ جديد ومستقبل جديد للبشرية كلها يتحقق بدولةٍ عالمية ذات سلطة مركزية تحكم جميع البشر. وينبّه المؤلف على أنّ توجه الغرب إلى العلمانية لم يكن في حقيقته سوى إحلالا لـ"الغرب" مكان الكنيسة، حيث إن الفكر الأوروبي الذي عبّر عنه فلاسفته (مثل كانط وهيغل ومونتسيكو) ينظر إلى أوروبا على أنها مركز التاريخ وتمام نضجه وأوج تقدمه (قارن ذلك بمقولة نهاية التاريخ لفوكوياما). ويشير الجابري إلى أنّ "الوعي بالذات-في الثقافة الأوروبية خاصة- إنما يتم عبر ‘الآخر’" (ص127)، وهكذا كان لا بدّ من تحديد هذا الآخر وتفكيكه وإقصائه وتحويله إلى تابع، وهذا ما فعله الاستشراق حين أقصى الشرق جغرافيًا وعرقيًا وعقليًا وحضاريًا.
لذلك يرى الجابري أنّ تفكير العرب في مستقبلهم وعلاقتهم بالآخر يجب أن يستحضر الخلفية الثقافية الدينية للغرب العلماني الذي –في لا وعيه على الأقل- يرى الإسلام ذلك المنافس التاريخي في الماضي، وأكثر المرشحين ليكون عدوًا في المستقبل. بعد ذلك يقول الجابري أن تفكير العرب يجب أن يبتعد عن السذاجة التي تصوّر لهم أن الغرب سيكون حليفًا وصديقًا، فهذا الغرب مهتم بالشرق الأوسط لسببين أولهما الموقع الاستراتيجي "الذي يجعل منه ممرا ضروريا للغرب إلى كل من آسيا وافريقيا يجعل مصلحته الأكيدة في امتلاك هذا الممر، في الهيمنة عليه، في إضعاف أهله، في تشتيت صفوفهم، في تجزئة وطنهم، في منعهم من الأخذ بأسباب القوة والمنعة، في مراقبته لهم مراقبة مستمرة" (ص144)، وثانيهما كونه أكبر مخزون في العالم للنفط الذي يرى الغرب ضرورة استمرار تدفقه إليه لتستمر حضارته، ويرى بأن هذا النفط من حقه لأنه اكتشفه وصنعه، وهكذا يجب أن يحصل عليه دائمًا و"‘بسعر معقول’ للحفاظ على ‘نمط الحياة الغربية’" (ص145).
أما القسم الثالث فيركز على صورة العرب والمسلمين كما تشكلها وسائل الإعلام الغربية، ويرى الجابري أن صورة الإسلام تتشكل في (أو ترتبط بـ) ثلاثة أبعاد هي العرب والهجرة والإرهاب. وهكذا فالإسلام هنا مرتبط بفئة محددة من المسلمين هم تارة العرب وتارة المهاجرين وتارة الإرهابيين. في البعد الأول نلاحظ أن الإعلام الغربي في تصويره للإسلام لا يتحدث عن نيجيريا وإندونيسيا مثلا، بل العرب وإيران، كما لا يتحدث عن المسيحيين والأقليات العرقية والدينية الأخرى. إذن فكما يقول الجابري "ما يجمع بين العرب والإسلام في الصورة التي تقدمها عنهما وسائل الإعلام الغربية هو شيء آخر يقع خارج المعنى الديني لـ‘الإسلام’ والمفهوم العرقي لـ ‘العرب’، شيء يجمع إيران إلى العرب ويفصل عنهما باقي المسلمين. إنه نفط الشرق الأوسط" (ص170). وفي البعد الثاني نلاحظ أن الإعلام الغربي ينظر إلى المهاجرين على أنهم خطر يهدد فرص العمل والهوية من ناحية، وأنهم ضرورة لحل مشكلات العمل والتوازن السكاني من ناحية أخرى. وفي البعد الثالث نلاحظ خطاب الخوف من الإسلام وربطه بالإرهاب رغم أن الإرهاب ظاهرة عالمية لا تُربط أفعالها بديانات مرتكبيها في الحالات الأخرى. وبعد التحليل يخلص المؤلف إلى أن الترابط بين الإسلام من جهة وبين العرب والمهاجرين والإرهاب من جهة هو ارتباط زائف غير مبرر. بعد ذلك يتحدث الجابري عن آليات العقل الأوروبي فيبين أن هذا العقل "لا يعرف الإثبات إلا من خلال النفي، وبالتالي لا يتعرف إلى الأنا إلا عبر الآخر" (ص183)، فالمسيحية تعرفت إلى أناها في القرون الوسطى بوضع الإسلام موضع الآخر الخصم، وفي العصر الحديث وضع الغربُ الشرقَ في مكان الآخر، ثم الاتحاد السوفييتي النقيض الاقتصادي الاجتماعي للغرب. ومن جهةٍ أخرى يوضح الجابري أن العقل الأوروبي يحبّ وضع التصورات أو السيناريوهات للمستقبل ثم يأخذ أرجحها، وهكذا فما إن انهار الاتحاد السوفييتي حتى بحث "صانعو السيناريوهات" عن الآخر العدو المحتمل الجديد، فلم يكن هناك مرشح أكبر من الإسلام لأنه الخصم التاريخي ولاحتواء منطقته على النفط، ولقضايا المهاجرين والإرهاب.
كان ذلك عرضًا سريعًا جدًا لا يغنى عن قراءة الكتاب، وهو كتابٌ شديد المتعة والفائدة رغم أنّ جزءًا مما جاء فيه يُعتبر الآن غير جديد وتحفل به الصحف ووسائل الإعلام العربية في كل وقت، إلا أنّ أسلوب الجابري في التحليل والاستنتاج يبقى فريدًا من نوعه. أنصح الشباب الجامعي باقتناء هذا الكتاب وقراءته جيدًا لتشكيل وعي بما جرى ويجري حولهم فيما يتعلق بهويتنا ومستقبلنا في مقابل "الآخر".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق