الأحد، 5 أغسطس 2012

علي سليمان الرواحي..وتأويل "خف علينا"



نشرت صحيفة البلد الإلكترونية بالأمس (4 أغسطس 2012) مقالًا للكاتب والصديق (علي سليمان الرواحي) بعنوان "خف علينا..وفلسفة التأويل"، والذي يتناول فيه بالتحليل إحدى حالات ما بات يُعرف بـ"قضية إعابة الذات السلطانية"، حينما رفع أحد الشباب لافتة كُتب عليها "خف علينا راعي لندن"، فأحيل على إثر ذلك إلى المحاكمة مع آخرين بتهمة الإعابة. ونظرًا لما شكّلته هذه القضية من إثارةٍ ولغطٍ في عُمان، حَظِيَ المقال كغيره في القضية ذاتها باهتمامٍ وانتشار سريعين، ما بين مُهاجمٍ حادّ، وموافق شديد الفخر.
في هذا المقال نحاول أن نتبين طريقًا وسطى، للتأمل بموضوعية في ما طرحه الرواحي في مقاله. وسيتضح من الفقرات التالية السبب الذي يجعلنا نكتب تعقيبًا على مقال الرواحي بالذات رغم كثرة ما كُتب حول قضية الإعابة.

أولا: تلخيص للمقال
تتركز فكرة المقال حول إشكالية احتكار السلطة للتأويل، بمعنى أن تنفرد الجهات الحكومية بحق صياغة التفسير الذي تراه مناسبًا لما يخدم مصالحها أو توجهاتها في قضيةٍ ما، متجاهلة عن عمد التفاسير أو التأويلات الأخرى المحتَملة، والتي يمكن أن لا تكون في صالحها. وهنا لا يمكننا أن نغفل مفهوم القوة/السلطة التي تمتلكها الحكومة، هذه القوة التي تمنح تفسيرها شرعية ورسمية لدى المواطن البسيط. وهكذا يذهب الرواحي إلى أنّ الادعاء العام اختار تأويلا معينًا لعبارة "خف علينا..." كي يُثبت تهمة الإعابة على المتهم، ولم ينظر في التأويلات المحتملة الأخرى التي قد تبرئ ذلك الشاب.

ثانيا: التحليل
بداية، لا بد لنا من تحيةٍ إلى الكاتب علي الرواحي لمنهجيته في الكتابة؛ حيث نجد أنه قدّم تحليلا يسير ضمن إطار منهجي واضح (=فلسفة التأويل)، شارحًا فكرته بهدوء وتسلسل يُحسبان له. ومما يُحسب له أيضًا طرح قضية في غاية الأهمية، وهي التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة من خطورة احتكار السلطة في أي مكان وزمان لحق التأويل، وترسيخ الفكر الأحادي الإقصائي. وذلك لا يمكن فصله عن قضايا مصيرية أخرى مثل استقلال القضاء الذي يفصل في تعدد التأويلات.
نقطة الضعف التي نراها في المقال ونعاتب فيها علي الرواحي تكمن في التأويل البديل الذي ساقه لعبارة "خف علينا..."، ليدلل به على إمكانية وجود تأويلات أخرى. حيث يقول الرواحي:

"حيث نجد ان الموضوع “خف علينا راعي لندن” هو موضوع عمومي لم يتم الإشارة فيه لشخص محدد بعينه ، مما يجعل التأويلات مفتوحة على مصراعيها و لا يمكن حصرها في شخصية السلطان تحديدا ً ، ف لندن مليئة بالسكان و زائريها و القاطنين فيها مجهولي الهوية و لا يمكن حصرهم ، وهو ما يجعلنا نستطرد في التأويل بأن هذه اللافتة ربما هي اشارة الى صديق بغض النظر عن هويته او جنسيته موجود في لندن تعذّر الوصول اليه بالطرق التقليدية. أضف إلى ذلك من الضروري التوضيح هنا و منعا ً لأي إلتباس يقع بشكل غير مقصود بأن السلطان ليس “راعي لندن” بل هو “راعي عُمان” اذا اخذنا بالحديث المشهور ” كلكم راع ٍ وكلكم مسئول عن رعيته”.
و على مستوى السياق فان عدم وجود السلطان في السلطنة في تلك الفترة و عدم إعلان مكان تواجده في الوسائل الإعلامية الرسمية – كما جاء في مذكرة الدفاع التي قدمها المحُامي القدير : يعقوب الحارثي – يثير الكثير من التساؤلات حول الأسباب التي دعت الجهات الأمنية العُمانية الى تبنّي هذا التأويل ، و الحيثيات التي استندت عليها لتوجيه هذا الاتهام و الذي على إثره تم إصدار الحكم ، ففي تلك الفترة كانت وسائل الاعلام العُمانية تتداول الخبر بأنه في زيارة خاصة للدول الاوروبية بدون تحديد او تعيين."


ومع –وبسبب- احترامنا الشديد للكاتب علي الرواحي، نعتب عليه أن ينزل فجأة من مقدمة منهجية ممتازة إلى تأويلٍ "شاطحٍ" في الخيال والبعد عن الواقع والسياق الذي ذكر هو نفسه أنه يؤطر التأويلات كي لا تنفلت. فمثلا، هل بالإمكان تصديق أنّ من حمل تلك العبارة قد يقصد "صديقا موجودًا في لندن" أو أي أحدٍ آخر لأن لندن مليئة بالسكان والزوّار؟ إن كان الأمر كذلك، فما الذي يجعل هذا الشاب يحمل العبارة أمام مقر الادعاء العام وعلى خلفية حدثٍ سياسي؟ وأما مسألة أنّ وجود السلطان في لندن لم يكن مُعلنًا، فتلك أيضًا حجة ضعيفة، لأنّ المتداول آنذاك (السياق الشعبي) أنّ السلطان كان هناك بالفعل سواء أصحّ ذلك أم لم يصح. هذا ولسنا بحاجةٍ أيضًا إلى تبيان ضعف التأويل فيما يتعلق بمسألة "راعي عمان".

المقال له أساس قوي جيّد، وطَرَحَ آراء مُحترمة فيما يتعلق بالإشكالية الواقعة بين تهمة الإعابة وعملية نقد السلطان بصفته رئيسا للحكومة (كما أشار عدد من الكتاب إلى هذه القضية مؤخرًا)، لكنّ التأويل المطروح أعلاه أفقد المقال كثيرًا من رصانته وجدّيته، خاصة وأنّ فكرة المقال الأساسية تعتمد على الإتيان بتأويلاتٍ بديلة محتملة تعزز مفهوم التعددية التأويلية في وجه أحادية التأويل. نرى أنّ علي الرواحي غلّف مقاله بلباسٍ علمي أكاديمي، لكنّ هذه الجزئية من تحليله ربما لم تتخلص من ضغط التعاطف مع قضية المعتقلين، الأمر الذي ربما منعه من وضع نفسه ككاتب خارج القضية لقراءة ما كتب كبقية المتلقين الذين قد يصعب عليهم الاقتناع بتأويله.

هل ذلك يعني أنّ المقال سيء؟ ليس بالضرورة، ولكنه ربما يكون أكثر إحكامًا لو تناول خيطًا آخر من التحليل. المشكلة الحقيقية في رأيي ليست فيما إذا كان الشاب يقصد السلطان أو شخصًا آخر، وإنما في حمل هذه العبارة على أنها "إعابة". هنا..وهنا بالتحديد قد تتعدد التأويلات؛ فإن كانت الأجهزة الحكومية ترى في "خف علينا" عبارة نابية مُعيبة شاتمة ، فليس شرطًا أن يتفق الجميع معها حول ذلك، بل من الممكن أن يراها أحدهم "نكتة سمجة" أو "سوء تعبير" أو حتى "قلة تأدب". أيًا ما كان الأمر، هل يستحق ذلك حُكما بالسجن؟ الأمر يقبل التأويل والأخذ والرد.

أخيرًا، يسأل الرواحي قائلا :"هل المقولة المذكورة منغلقة على نفسها وواضحة لا تقبل الالتباس أو تعدد التأويلات وتباينها...؟". ونقول، ربما لا، ولكنك يا علي لم تأتِ بأمثلة على التأويلات التي تستحق أن تكون بديلة. ربما نتقبل التأويل الذي طرحه المقال من محامي يحاول استغلال أية ثغرة أو قشة يتعلق بها للدفاع عن موكله، ولكن عندما يخرج التأويل من مفكرٍ واعد، فيحق لنا أن نعتب ونعقّب. وإن كان الكاتب لا يستطيع الانفصال عن عواطفه ومواقفه، فهذا أمر مفهوم، ولكننا حين ندافع عن قضيةٍ ما نحتاج إلى قوة حجة كي لا نخسر ما ندافع عنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق