يأتي هذا المقال في وقتٍ قد هدأتْ فيه نسبيًا حمى الاستقطاب المجتمعي حول قضية "إعابة الذات السلطانية"، بيد أنّ الكتابة في هذا الموضوع لا تخلو من مخاطر؛ فالاستقطاب إنما هدأ ولكنه لم يغب تمامًا، وما يقوله أو يكتبه أحدهم قد يؤدي إلى غضب البعض ورضا بعضٍ آخر، وربما حتى اتهامٍ بالتحريض (ولعلّي أعترف هنا أنني أحرّض على دراسة المشكلة). لكنّ هدف المقال في حقيقة الأمر بعيدٌ عن نزعة النُصرة لفريقٍ دون آخر، ولا يحاول حتى السير في اتجاه "إمساك العصا من النصف"؛ إذ إنّ المقال يسعى في المقام الأول إلى الابتعاد عن تلك "العصا"، والنظر إليها وإلى حامليها من بعيد، متجنبًا الخوض في إصدار أحكام قِيَمية ترجح كفة طرفٍ على آخر. يصدرُ هذا المقال من رصدٍ لتناول المجتمع ومثقفيه لقضية "الإعابة"، ويحاول التنبيه على أنّ الوعي بهذه القضية يتم تشكيله أو سحبه إلى ميدانٍ آخر، يختزل القضية ويتلاعب بدلالاتها إذ ينزعها من سياقها الأرحب سياسيًا واجتماعيًا.
صنع الأيقونة
الناظر الآن إلى الجدل الدائر حول القضية (وآخره مقال د. زكريا المحرمي1) لا يكاد يخرج من لعبة الدفاع والتعاطف مع المتهمين، أو التبرأ من فعلهم (أو منهم)، أو الوقوف في الوسط لحل الإشكال بين الكاتب والسلطة. وهذا ما سارت في محيطه أيضًا ندوة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء2، فنلاحظ أنّ مقال د. زكريا يقترح إنشاء لجنة حكماء تساعد القضاء في الحكم على قضايا التعبير عن الرأي، كما حاولت بعض أوراق الندوة المشار إليها أعلاه التنبيه على ضرورة إعادة النظر في التشريعات الحالية لتجنب التصادم بين حرية التعبير والقانون.
وهذا المشهد مع بقية ما يُنشر في وسائل الإعلام المختلفة يحصرُ القضية كلها في فعل الإعابة (أو في حرية التعبير)، ليخلق منه حدثًا أو أيقونة لا تشير إلا إلى ذاتها، تنطلق منها وتنتهي إليها، متجاهلة السياق الذي أدى إليه واستشراف القادم المبني عليه هو لا على تفرعاته فحسب. لذلك فإنّه من المستغرب تفريغ القضية من مضمونها وساحتها الفكرية، والزجّ بها في متاهاتٍ أخرى (حرية التعبير، وصراع المثقف/السلطة، والقيم الاجتماعية، والانتماء، والولاء لرمز البلاد). من غير المفهوم حتى الآن كيف أنّ المثقف والمفكر العماني لم يطرح الأسئلة التي تخصّ القضية الأساسية التي كان فعل الإعابة فرعًا عنها، فهل القضية الأساسية هي حرية التعبير، أو صراع المثقف والسلطة، أو الولاء؟ كل هذه القضايا-في رأيي- هي نتائج لا أسباب. لا بدّ أن هناك عوامل وأحداثًا سياسية واقتصادية واجتماعية تحتاج منا إلى بحثٍ وتحليل، كي نتوصل إلى أساس القضية لا جزءٍ من تجلّيها في فعل الإعابة. وربما يكون مقال د. المعتصم البهلاني "قبل أن يسقط البرواز المقدس" ومقال بسمة الكيومية "إعابة الذات السلطانية" الاستثناءين الأبرز لكيفية تناول الكاتب العماني لهذه القضية، رغم ما بهما من انفعال أو انحياز.
ومن الواضح أنّ إشاعة مصطلحي "الكتابات المسيئة" و "الإعابة" كعنوان للقضية ساعد على تفريغها من أساسها؛ إذ يؤدي العنوان هنا وظيفة اختزالية تقنع القارئ والمستمع (المحايد) بأنّ الأمر كله متعلق بفعل الإعابة أو الإساءة، ويؤدي وظيفة استفزازية للقارئ والمستمع (المتعاطف) بحيث يشغله في التشكيك في هذين المصطلحين ومدى ملاءمتهما قانونيًا لمحاكمة المتهمين. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ مصطلح "الإساءة" كان يؤدي دورًا كبيرًا في اللاوعي إذ يُذكّر- كما أشار د. زكريا المحرمي بفطنته في تغريدةٍ له- بقضية الرسوم المسيئة للنبي (ص). ومنذ أن برزت هذه القضية يتم تأجيج الصراع بين المتعاطفين والمتبرئين وتغذيته بمصطلحات ومفاهيم ومواد قانونية يطوّعها كل طرفٍ لخدمة موقفه3، ولا يكاد المجتمع يهدأ حتى يتجدد الصراع بعقد المحاكمات ونشر المقالات والأخبار وصور المتهمين في وسائل الإعلام المحلية، مما يجدد سيل الدفاع والاتهام المجتمعي خاصة عبر وسائل التواصل الحديثة. والمتأمل لما يُكتب ويُقال يُلاحظ خلطًا مقصودًا أو غير مقصود في التعميم يُذْكي عملية التراشق بالاتهامات ويُزيح الوعي بالأسئلة الهامة، كما في المثالين التاليين:
1- توسيع نطاق البذاءة التي وردت من "بعض" المتهمين"، وتعميم وصف البذاءة والسب على جميع المتهمين.
2- توسيع نطاق المظلومية على "بعض" المتهمين الذين كتبوا ألفاظًا أو عبارات تحتمل التأويل وليست بالضرورة بذيئة وتأتي في سياقٍ حسن النية، وتعميم التبرئة على جميع المتهمين.
كسر الأيقونة
حتى يمكننا معالجة المشكلة التي تمرّ بها السلطنة، والوصول إلى سياساتٍ تعيد التناغم بين أفراد المجتمع وبين حكومته، لا بدّ أن ينعتق المثقفون والمفكرون (وحتى الحكومة) من هذه الأيقونة المصطنعة، وإعادة الوعي بالقضية الحقيقية، مبتعدين عن الإجابات السهلة الجاهزة الفقيرة في مقدرتها التفسيرية من قبيل "التآمر والتحريض"، أو حتى "التأثر برياح التغيير"، ومحاولين الإجابة عن ثلاثة أسئلة:
1- ماذا جرى؟ (قبل فعل الإعابة)
2- لماذا جرى؟
3- كيف جرى؟
فمن وجهة نظري أنّ البحث عن الأسباب السياسية والاجتماعية التي أدّت إلى اتخاذ عددٍ من الشباب هذا الموقف العنيف لفظيًا ضد السلطان، أهمّ بعشرات المرات من البحث عما كتبوه وعن الطرق التي يجب معاقبتهم بها. إنّ ما يحدث الآن يمكن تشبيهه بعلاجٍ لحالة ظهر فيها العَرَض، لكنه ليس علاجًا لأسباب "المرض" وانتشاره؛ وكي نكون صادقين يجب علينا الاعتراف بأنّنا نسمع الآن "إعابات" أقذع مما كُتب بكثير، فما السبب؟ لا يمكن بتاتًا معالجة الأمر بتعقّب الوسيلة (النشر في الإنترنت والهواتف المحمولة)، فغدًا تظهر وسائل أخرى.
كلمة أخيرة: يكتفي هذا المقال بالتنبيه على ضرورة الالتفات إلى أساس المشكلة، ولكنه لا يبحث فيه نظرًا لما يتطلبه هذا البحث من دراسة ومعلومات وافرة.
الإحالات
1- "الإعابة بين الوعي الثقافي والخرق الاجتماعي"، جريدة الشبيبة بتاريخ 24 سبتمبر 2012: http://www.shabiba.com/News/Article-7649.aspx
2- "حق التعبير وحق التجمهر السلمي بين النص والواقع"، مسقط في يوم 16 سبتمبر 2012.
3- أشار إلى ذلك أيضًا الدكتور زكريا المحرمي في مقاله المذكور أعلاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق