نشرت جريدة "عُمان" بالأمس عرضا لأهم
مجريات اليوم الأول من "الندوة الوطنية لأفضل الممارسات المجتمعية
العمانية"، والتي نظّمها في اليومين الماضيين مجلس الدولة بمباركة من مجلس
الوزراء حسب ما جاء في التغطية الإخبارية. ومن بين ما حملته تلك التغطية مقتطفات
من كلمة ألقاها معالي وزير الأوقاف والشؤون الدينية بدعوة من اللجنة المنظمة.
لا يبحث هذا المقال في مضامين الندوة ومحاورها، بل
يركز على كلمة معالي الوزير تحديدا وينطلق منها للإشارة إلى فكرة جاءت في هذه
الكلمة استدعت كتابة هذا المقال، لما فيها من دلالات شديدة الخطورة.
يقول معالي
وزير الأوقاف والشؤون الدينية في فقرة قرب نهاية كلمته:
"والممارسات المجتمعية على أنواع؛ منها:
ممارسات دأبت عليها الأمة في نظمها الاجتماعية وكرستها العولمة المعاصرة واتساع
الحياة وتطوّر أنماطها، وهي إما سلبية ضارة وإما إيجابية نافعة، ومنها ممارسات
دخيلة على المجتمع غير معهودة من ذي قبل. فأما الصنف الأول من الممارسات فإن كانت
إيجابية؛ فينبغي التركيز عليها بالحثحثة وشيء من التقدير لبقائها، كإكرام الضيف
والترحيب بالقادم والابتسامة وسعة الصدر وغيرها، وأما السلبية منها فينبغي كفكفته
عن الأفراد كالإسراف والقيل والقال وأذن الشر والإدمان على التقنية...وغيرها.
غير أن ما ينبغي إدراكه هنا بأن الدولة مسؤولة
عن إدارة الشأن العام للمجتمع بما فيه تشكيل العقل الجمعي؛ والدفع به نحو
الإيجابية والفاعلية".
في هذه الفقرة يتحدث معالي الوزير علنا، وعلى نحوٍ
غير موارب، عن مسؤولية (=واجب) الدولة في "تشكيل العقل الجمعي"
و"الدفع به نحو الإيجابية والفاعلية"، وهذا يعني أن تقوم مؤسسات الدولة
بتحديد ما ينبغي أن يتمثّل به المجتمع (بجميع أفراده) من أفكار ومبادئ وقيم
وتوجهات وسلوك، بغية الوصول إلى "الإيجابية" و "الفاعلية"
التي يبدو أنّ تعريفها وتقديرها من اختصاص الدولة أيضا.
لعله ليس من الصعب تمييز الفكرة الخطيرة التي تنطوي
عليها عبارة الوزير؛ أي منح التفويض لمؤسسة رسمية أو غير رسمية بتشكيل عقل المجتمع
(=أَدْلجَتِه) حسب ما تراه "إيجابيا" و "فاعلا". ومن الغريب
(والصادم) أنّ أحدًا من الحضور في الندوة أو ممن قرؤوا الكلمة المنشورة لم يسجلّ
اعتراضه أو يعلّق على هذه الفكرة التي مرّرها معالي الوزير على ما فيها من دلالات.
ويبدو أنّ الأمر لا يخرج عن احتمالين اثنين، الأول
أن تكون تلك "زلة لسان" من معاليه (أو زلة قلم، فالكلمة مكتوبة). وربما
تكون كذلك، بيد أنّ زلة اللسان كما يقول علماء النفس لا تصدر عن فراغ ولا تتمظهر
إلا بسندٍ داخلي يخفيه المتكلم عمدا. أما الاحتمال الثاني فهو أنّ الوزير يريد أن
يعلنها واضحة للجميع بأنّ هذا ما "نراه" و"نريد أن نفعله"
و"سنفعله". وإذ لم يعترض أحد من أعضاء الحكومة الحاضرين، ولم يتم حذف
تلك الفقرة من الكلمة المنشورة في اليوم التالي، فلعلّ هذا فعلا ما يُراد تمريره
إلى الرأي العام، ولعلّ اختيار وزير الأوقاف والشؤون الدينية لإعلان هذه الرسالة
والتكفّل برعايتها مردّه إلى سهولة تمريرها عبر المؤسسة الدينية (التي يمثلها
الوزير)، إذ في المجتمع المتدين أو المحافظ تكون الرسالة من المؤسسة الدينية
"ناعمة" مقبولة. إذن، فقد يكون لدى المؤسسة الرسمية ما يجعلها تعتقد
بوجود تهديد أو خطر يتوجب معه السعي إلى الاتساق والوحدة المجتمعية، والحدّ من الاختلافات
الفردية التي قد تؤثر على ذلك الاتساق.
هذه الرسالة تتأكد في موضع آخر من كلمة الوزير حين يتحدث
عن أخطر "المفاهيم والسلوكيات غير الطيبة" لدى الشباب، الناتجة من أشكال
الاتصال الحديثة، والتي تؤثر على "انتمائهم الوطني وقيمهم الدينية
وأخلاقهم". وهذه المفاهيم هي: الفردانية، والشهوانية، والفوضاوية.
نلاحظ هنا أنّ معالي الوزير يعتبر "الفردانية" واحدة من أخطر المفاهيم
على الشباب (ولعلها إشارة على وجوب التصدي لأي فرد يشذّ عن السعي للهوية الجمعية
الواحدة) ويضع هذه الفردانية بشكلٍ واع ومدروس في المرتبة نفسها مع الشهوانية
والفوضاوية، لإبراز خطرها وضررها الأخلاقي على المجتمع.
يعلم معالي الوزير (وهو باحث مثقف) أن
"الفردانية" مفهوم فلسفي عميق، ولا أشكّ في أنه يعلم بأنّ النزعة الفردانية
من حيث هي توجه فلسفي ليست شرا مطلقا، كما أنها لا توجد بشكلٍ مطلق إلا في الخيال
وفي ميدان التنظير فقط؛ إذ إن أي مجتمع بشري يأخذ من الفردانية ويأخذ من الجَمعية
(فالمجتمعات التي تعلي من قيم الحرية الفردية تتبنى الديمقراطية وهي ممارسة جمعية
في فلسفتها). لكنّ معالي الوزير اختار أن "يشيطن" هذا المفهوم ويلصقه
بالشهوانية والفوضاوية، كي يستطيع في خطابه أن يبرر "تشكيل العقل
الجمعي" ويمرر رفض التفرد والاستقلالية وحرية اتخاذ الفرد لقراراته وتشكيل
هويته. في الحقيقة، لم يعد هذا التفرد في خطاب الوزير مرفوضا فحسب، بل "خطيرا".
ولئن حاولنا أن نُحسن الظنّ في الندوة الوطنية ولا
نتهمها بفرض الوصاية على المجتمع، فإننا في الوقت نفسه نصطدم بتمثيل طفيف للغاية
لشريحة الشباب التي يبدو من خطاب الندوة أنها الشريحة المستهدفة. وإن كانت الندوة
تحرص من ضمن محاورها على "الحوار بين الأجيال"، فمن المستغرب أن تُدار
النقاشات وتُصاغ التوصيات بعيدا عن حضور أكبر لتلك الشريحة، ومن ثم تُتخذ بعض
الآليات لتنفيذ تلك التوصيات (=تشكيل العقل) على المجتمع من خلال الإعلام الرسمي
وغيره.
إنّ هذا الخطاب على ما يحمله ظاهريا من حسن نوايا
ورغبة في الصالح العام، إلا أنه يحمل أيضا مقدمات لنتائج شديدة الضرر على المجتمع نفسه؛
فحين يكون هناك تخويل لمؤسسة أو طبقة أن تكون معنية بفرض أفكار أو قيم واحدة على
المجتمع، لا يوجد ضمان لكيفية استخدام هذا التخويل، ولا ضمان للقدرة على التراجع
عنه. ولئن كانت في الفردانية عيوب، فإن النزعة الجمعية ليست حلا لمواجهتها، وفيما
قد تنتج الفردانية المتطرفة شكلا من الفوضى واللامبالاة والتفسخ، فإن النزعة
الجمعية المتطرفة تؤدي إلى أعلى أشكال النرجسية والدموية (النازية والأصولية
الدينية مثلا) إذ إنّ احتكار الحق في أي زمان ومكان يؤسس بطبيعته للعنف، فمن
يخالفني يهدد وجودي، ولا بد أن أقضي عليه.
مقال رائع جدا وصريح ... (ربما) الكثير لم يستوعب كلمة معالي الشيخ الوزير.
ردحذفللأسف أستاذ أحمد مقالك هذه المرة فيه الكثير من (الشطحات)
ردحذففالوزير لم يقصد أن الحكومة تحدد للفرد ما يريده وما يختاره، ولكن الحكومة ستحد من التصرفات الفردية التي تشذ عن الاطار العام للقيم والمبادئ التي يحددها القانون وتتنافى معه شكلا ومضمونًا.
مدهش .. مشخص .. عميق ..
ردحذفووطني
صديقي لو تخوز خاصية التحقق بالحروف من إعدادات المدونة عشان نعلق بدون تحقق بالأرقام
جميل اخي ولكن لم توفق ف تحليل ..!!
ردحذفجميل جدا.
ردحذفأخرج من كلام لم يفهمه صاحبه وربما لم يكتبه بنفسه قراءة أمتعت القارئ، أضف إلى ذلك تحديد مشكلة. هكذا هو الباحث الحق.
تحياتي لك يا صديقي