الثلاثاء، 1 مارس 2016

اختراقُ العزلة


"الأبناءُ نِيامٌ، فإذا ماتَ الآباءُ انتبهوا"
لا يهمُّ ما إذا كانت علاقتك بوالدك حميمةً أو جافة، مليئةً بالذكريات أو بصفحاتٍ بيضاء خلَّفَها ابتعادُه عنك. لكنّك قطعًا حين تفقدُ الأب لا تملكُ إلا أن تتداعى بعد أن يتملّكك شعورٌ ثقيلٌ بأنك أضحيتَ بلا سقف.
لعلَّ الذكريات تعزّيك وتهدهد وَحشَتك، خاصةً لو كانت تلك الذكريات سعيدة مبهجة، فتُحيي منها صورةً حيةً لأبيك بعد أن طواه التراب. وبقدر ذكرياتك تكتمل الصورة. ولكن ماذا عساك تفعلُ إن خانتكَ الذكريات، بل كيف تحتملُ الأمرَ لو أنّك لم تجد في تاريخ والدك سوى عزلةٍ اختارَها لنفسه فجعلت من رحيله مجرّد عزلةٍ أخرى طويلة؟ كيف تتصالحُ مع نفسك إن لم تحاول أن تخلق صورةً من أي شيء يمكن أن تقع عليه يداك؟
هذا ما أصاب بول أوستر حين علم بوفاة والده، فراح يلملم ذكريات أبيه ويرسم صورةً حيةً له مستعينًا بالأشياء التي تركها وراءه. يمضي إلى بيته الذي كان يسكن فيه وحيدا، يقلّبُ الأشياء، كلّ الأشياء علّها تقول شيئا عن أبيه. لكنّ الأمر ليس ممتعًا كما قد يُظنّ، فـ"لا شيء أكثر رهبة من مواجهة أغراض رجلٍ مات"، فهذه الأغراض "تفصح عمّا لا رغبة لأحدٍ في سماعه، عما لا رغبة لأحد في معرفته". غير أنّ بول أوستر يواجه صراعا داخليا عنيفا: "رحل أبي، وإذا لم أتصرف بسرعة، فسستلاشى حياته بأكملها معه". هنا يُدرك أنه لا بدّ أن يقتحم عزلة أبيه.
وفي هذه المهمة الصعبة كما يعترف بول أوستر لا بدّ أن يتحلى بالشجاعة كيما يرسم صورة حقيقية، مقاومًا بذلك النزعة الطبيعية في تذكّر حسنات الأب الفقيد. هكذا يمضي في الكتابة عن طباع أبيه ومِزاجه وعاداته وعلاقته بعمله وأصدقائه وعائلته وزوجته وأبنائه، وكلّ ذلك في خيطٍ مباشر يربطه بابنه. نجدُ في حديث الابن عن أبيه شجنًا مؤثرًا طبع مشاعره تجاه والده، حيث يقول "فأنتَ لا تكفّ عن الجوع لحبّ أبيك، حتى بعد أن تكبر". لكنّنا أيضًا وفي أغلب ما كتبه بول أوستر نجد سبرًا وتفسيرًا لحالة العزلة التي اختارها والده عبر خيوط أحداث وذكريات، وهي ليست عُزلة بالمعنى الماديّ، بل بمعنى العيش في عالمك كأنّ "محصّن ضد العالم". أما الجزء الثاني من الكتاب فهو مذكرات بول أوستر نفسه، وفيها ارتباط غير بعيد بالجزء الأول إذ نجد هواجسه حول أشياء كثيرة منها علاقته بابنه. يقول أوستر "عندما يموت الأب، يصير الابن أبا نفسه، وابن نفسه في نفس الوقت. ينظر إلى وجه طفله ويرى نفسه في وجه الصبيّ".
هذا كتاب رائع حقًا (خاصة في الجزء الأول منه) يُلامس أشياء كثيرة في كل من فقد والده، ويدعو من لم يفقد والده بعد إلى التفكّر كثيرًا. أعتقدُ أنّ هذا الكتاب سيكون من أعزّ الكتب إلى نفسي، ولا بدّ أن أحيي أحمد العلي على ترجمته الممتازة للكتاب.
----------
اختراع العزلة
بول أوستر
ترجمة: أحمد العلي
دار النشر: أثر للنشر والتوزيع، 2016م



هناك 4 تعليقات:

  1. رائع ما كتبت ما شاء الله.
    أين يمكن أن أجد الكتاب؟
    بحثت في رابط معرض الكتاب فلم أجده.

    ردحذف
    الردود
    1. أخذت منه ثلاث نسخ. موجود في الركن 26G

      حذف
  2. رائع ما كتبت ما شاء الله.
    أين يمكن أن أجد الكتاب؟
    بحثت في رابط معرض الكتاب فلم أجده.

    ردحذف
  3. شكرًا جزيلا. الكتاب متوفر في دار مسعى جناح G26

    ردحذف