الأربعاء، 2 أبريل 2014

مبادرة وطنية للثقافة

أكتب هذا المقال حول مشهد الثقافة في عُمان، واضعًا نفسيَ خارج الإطار وداخله في الوقت نفسه، خارج الإطار من حيث التناول الموضوعي الذي يتطلب محاولة النظر إلى الوضع الثقافي من زاوية شمولية مبتعدة، وداخل الإطار من منطلق الاهتمام المشترك بالموضوع. ولئن احتوى المقال على بعض العتاب فهو في هدفه الأساسي مع التشجيع لا مع التقريع، مع التحليل لا مع التطبيل، ومع الأمل لا مع الكسل.

من يتابع المشهد الثقافي في عمان يلاحظ أصواتا كثيرة ومتزايدة تشتكي من وضع الثقافة، والأمثلة على ذلك عديدة جدا، لكنني سأكتفي ببعضها: تغريدات علي سليمان الرواحي حول تدني مستوى ملحق "شرفات"[1]، ومقال هدى حمد الذي ينتقد غياب المشاريع الثقافية في السينما والمسرح وحتى بيع الكتب وتوزيعها[2]، وتغريدات فاطمة الحجري عن غياب مشروع وطني للترجمة[3]، وما كتب في وسائل التواصل الاجتماعي عن غياب التنافس على إدارة الجمعية العمانية للكتّاب، ومقال هلال البادي عن جمعية الصحفيين العمانيين[4]، بل حتى التلفزيون الرسمي الذي أذاع تقارير عن اختفاء المكتبات من الأسواق[5] وحاجة المكتبات العامة إلى الدعم[6]. فهل هناك مشكلة حقيقية؟

يميل "بعض الناس" في عُمان إلى اعتبار المثقف كائنا متذمرا كثير الشكوى لا يعجبه العجب، يتخذ في أغلب الأحيان مواقف "سلبية" يُبرز فيها النقص ويضخّمه، في حين نادرًا ما يذكر الإيجابيات أو يخطو لصنعها. ولستُ هنا في معرض الدفاع عن جانب أو آخر، وللأمانة فإن الوصف أعلاه لا يخلو من حقيقة في بعض الحالات، إذ نحن نتحدث عن بشر. وللأمانة أيضا فإن كثيرا مما يوصف بالسلبية لا يعدو أن يكون نقدا (هادئا أو لاذعا). ما يهمني هنا هو التفكر في مشروعية الشكوى من الوضع الثقافي، فهل يستحق فعلا كل هذه الشكوى أم أنّ المثقفين العمانيين بالفعل كائنات متذمرة؟

يحق لنا في معرض تقييم الوضع الثقافي أن ننظر فيما تحقق لنا من إنجاز ثقافي خرج من حدود السلطنة. فعلى صعيد الأدب لنا أن نتساءل عن عدد الأدباء العمانيين الذين يُعرفون ويُقرؤون في الخارج، وعن الروايات أو المجاميع القصصية العمانية التي حققت مبيعات كبرى في الوطن العربي أو الخليج العربي على أقل تقدير. وعلى صعيد الترجمة، من هو المترجم العماني الذي يُعرف بالاسم ويبحث القارئ العربي عن ترجماته؟ وفي السينما والدراما كم فنانا وعملا فنيا عمانيا يمكن أن يُشار إليه؟ وفي مجال البحوث والفكر ما الكتب الفكرية العمانية المؤثرة التي يتسابق الباحثون إلى اقتنائها؟ وسق على ذلك أمثلة في بقية المجالات الثقافية. بطبيعة الحال هناك بعض الحالات هنا وهناك، لكنها أولا حالات فردية نادرة، وثانيا وللأمانة فهي لم تصل بعد إلى درجة المنافسة التي يتطلع العمانيون إليها. وقد يعترض القارئ الكريم فيقول إننا لا يجب أن نقارن أنفسنا بدول أخرى ذات نشاط ثقافي طويل، بيد أننا إن لم نقارن أنفسنا بالأفضل فلن نصل إليه، وإن لم نقارن أنفسنا بالأفضل بعد أربع وأربعين سنة من النهضة العمانية فمتى إذن؟

إن الوضع الثقافي في عُمان ليس على ما يرام، أو على الأقل ليس كما نتمنى أن يكون. من حقنا وحق عُمان علينا أن نتطلع إلى ظهور أديبٍ أو مخرج سينمائي يتعرف العالم على عمان من خلاله. من حقنا وحق عُمان أن نقول للعالم بأننا قدّمنا مترجمين ساهموا في إثراء المكتبة العربية. من حقنا وحق عُمان أن لا نخجل حين يزورنا ضيف ولا يجد مكتبة شرائية أو عامة تليق بهذا البلد. ومن حقنا وحق عُمان أن يكون لنا مفكرون ينتظر المتابعون كتبهم وآراءهم وتحليلاتهم. باختصار، من حقنا أن تكون لنا "قوة ناعمة".

تلك الشكاوى الكثيرة من المثقفين العمانيين وإن سببت إزعاجا للبعض فإنها في جانب من جوانبها علامة إيجابية؛ إذ إنها تشير إلى توق هؤلاء المثقفين إلى إنجاز ثقافي أفضل، والرهان في الحضارة يكون على الأفراد الذين يتطلعون إلى التطور. ولكن حتى نكون موضوعيين، فالتطلّع في ذاته غير كاف، بل يستلزم سعيا حقيقيا. وفي حين نلوم المؤسسات الرسمية على غياب اهتمامها بالوضع الثقافي، فإننا نساهم معها في إبطاء التطوّر حين نعتزل المشاركة. فعلى سبيل المثال كثيرا ما توجّهنا بالنقد إلى الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، لكننا حين جاء الوقت لانتخاب إدارة جديدة يمكننا أن ننفّذ من خلالها ما نريد، عزفنا عن المشاركة. كثيرا ما ننتقد الملاحق الثقافية الموجودة التي اعتزلناها أصلا ولم نعد نكتب فيها. وغنيّ عن القول إنّ عزوفنا عن المشاركة بما هو قيّم (من وجهة نظرنا) سيفسح مجالا لما لا يرضينا. من جهة أخرى لا يمكن أن نتجاهل بعض المحبطات الحقيقية في المؤسسات الثقافية الرسمية، والتي تسبب ذلك العزوف. وهنا نصل إلى المشكلة التي يمثلها هذا التفاعل الجدلي ما بين المثقف والمؤسسة، فكيف نطلب من المثقف المساهمة في تطوير الثقافة حين لا يجد دعما من المؤسسة؟!

ما أحاول أن أجادل به هنا هو أنّ مسألة تطوير الوضع الثقافي ليست (بل لا يجب أن تكون) مرهونة بالمؤسسة الرسمية بل بالمبادرة الفردية والمجتمعية؛ فالإبداع الثقافي الحقيقي في العالم كله لم ينتظر دعم المؤسسة ولم يخرج من رحمها (وإن ساهمت المؤسسة في رعايته في بعض الحالات طبعا). نهضة الثقافة لن تكون إلا بحراك المثقفين أنفسهم وسعيهم، مما سيغري المؤسسة الرسمية لاحقا بالرعاية والدعم. هناك الكثير من المشاريع الثقافية التي يمكن للمثقفين أفرادا أو جماعات أن ينفذوها، وأن يتحصلوا على التمويل اللازم لها من التبرعات أو الدعم الخاص. فمثلا، كُتب الكثير جدا عن غياب مكتبات عامة في عُمان، في حين أنّه لو جُمعت أنصاف مكتبات المثقفين لأنشئت نواةً لمكتبة عامة جيدة!

مارس المثقفون النقد إيمانا منهم بأهميته وبدورهم في التفاعل النقدي، لكنّ هذا النقد لم يفض بالضرورة إلى تحسّن، خاصة في ظلّ ثقافة لا تتصالح مع النقد بل تعتبره تهجما شخصيا. إذن فما يجدر بنا المراهنة عليه الآن هو المبادرة فردية كانت أو مجتمعية، وما يتم تحقيقه من خلال هذه المبادرات هو الذي سيمنحنا الشعور الأكبر بالإنجاز. ولئن أردنا أن تكون للمشاريع الثقافية استقلاليتها الفكرية عن المؤسسة الرسمية، فينبغي علينا أن نسعى إلى دعمها؛ فنحن حين نكتفي بالتفرج عليها إما نحكم عليها بالتوقف أو نضطرها إلى التخلي عن بعض استقلاليتها باللجوء إلى دعم المؤسسة، ثم نشتم فيها وننتقد أداءها. من جهةٍ أخرى يحق لنا أن نعتب على المؤسسة ملاحقتها لبعض المبادرات، بدلا من تركها تأخذ مساحتها في الحركة والنشاط ما دامت "تعمل في النور" و لا تخلّ بالقانون. وحريّ بالمؤسسة الرسمية أن تسعى لتشجيع كل ما من شأنه أن يرسخ روح الاستقلالية كي يخفف عنها حملها، بدءا من المبادرات الثقافية وحتى ريادة الأعمال.

وحتى لا يُحمَل كلامي على غير مراده، فأنا هنا لا أطالب بالضرورة بالاستغناء عن المؤسسة الرسمية أو اعتزالها، وإنما أدعو إلى عدم انتظارها هي كي تقوم بالتخطيط والمبادرة، وهي في أغلب الأحيان قليلا ما تبادر لأنها بالكاد تلتقط أنفاسها من دوامة البيروقراطية والروتين اليومي. إن ارتأى البعض منا إمكانيةً لتطوير مجلة ثقافية مثلا، فيمكن لبعض المهتمين الاجتماع مع إدارة المجلة ومناقشها وتقديم حلول وخيارات لها.

وكي لا يكون هذا المقال موجة أخرى من سلسلة "الشكوى" أو النقد الذي لم يؤت أكله، فإنني أختمه باقتراح أتمنى أن يجد (إن كان يستحق) ما يقوّيه من التوجيهات أو الملاحظات. نحن في عُمان بحاجةٍ إلى "مبادرة وطنية للثقافة"، تبدأ بتحديد الرؤية (أي كيف نريد أن يكون وضع الثقافة في عمان بعد 5 سنوات مثلا)، وتستند على الحقائق والإمكانات المتاحة، مرورا بالنقاش والتخطيط العملي، وانتهاء بوضع الآليات التنفيذية. ولعلّي إن وجدت الأيادي المعينة أن أعلن عن ورشة عمل خلال أشهر، على أن تتشكل قبلها فرق عمل يتخصص كل منها في قطاع محدد (الأدب، المسرح، السينما، الفكر، الترجمة، الصحافة الثقافية، الخ)، فتناقش هذه الفرق رؤيتها المستقبلية مع بعض ذوي الخبرة الإدارية والمالية في ورش عمل تخرج بحلول وخطط لمشاريع نعمل على تنفيذ ما يمكن منها بمبادرات مجتمعية أو فردية، ونشترك مع المؤسسة الرسمية في تنفيذ بعضها الآخر.


وعُمان من وراء القصد.


1 https://twitter.com/alialrawahi
2 http://main.omandaily.om/?p=92227
3 https://twitter.com/Alhajrifatema
4 http://albaladoman.com/?p=16548
5 http://www.youtube.com/watch?v=HVulW501CZ4
6 http://www.youtube.com/watch?v=DeZsMEGqIVQ

هناك 3 تعليقات:

  1. كل الشكر وخالص التقدير أستاذ أحمد

    مقال واعٍ، وطموح.

    ردحذف
  2. طرح موضوعي يتسم بروح المبادرة والرؤية والفكر المستنير. لطالما وجدت قلمك ملهما. جزاك الله خيرا

    ردحذف