الأحد، 6 أبريل 2014

ملحٌ على جُرح الهُوِيّة


تقديم
من أصعب الأمور على الباحث أو المراقب للشأن العام أن يتحدث في قضية مثيرة للجدل وهي لم تنته بعد، ولم تتضح جميع أبعادها، ولم يهدأ بعد الاستقطاب الواقع بين طرفيها. بيد أنّ المثير للجدل يستحق التفكير، حتى وإن كان هذا التفكير ليس في القضية نفسها وإنما في طبيعة الجدل الذي دار حولها. والإشارة هنا إلى قضية المجموعة القصصية التي شغلت وسائل التواصل الاجتماعي في عُمان في الأيام القليلة الماضية. وفي حين يشير هذا المقال إلى هذه القضية، فإنه ينطلق أبعد منها بغية الوصول إلى تفسير أشمل يستوعبها ويقدّم إطارا لتفسير ظواهر أخرى. ولعلّه من الواجب التوضيح بأنّ هذا النص مجرد مقال يسعى للتفكّر وإثارة التفكير، وليس دراسة علمية منهجية.

ردة الفعل الغاضبة
من تابع ردود الفعل الكثيرة جدا على المقاطع التي نُشرت من المجموعة القصصية المشار إليها أعلاه، يجد كثيرا من السخرية والتهكم، إلا أنّ المزاج العام كان الغضب أو الاستنكار على أقل تقدير. ووفقا لما ذكره كثير من المعلقين، فإنّ سبب الغضب يعود إلى تصادم تلك المقاطع مع الأخلاق والأعراف العمانية الإسلامية المحافظة. وأخذًا بالظاهر فإنّ هناك العديد ممن هم صادقون فعلا في غيرتهم على الأخلاق والآداب العامة، ممن يشعرون -وهذا حقهم لا يمكن مصادرته- بالاشمئزاز من الألفاظ والمشاهد الجنسية التي تحتوي على فجاجة وبذاءة لا تتقبلهما أذواقهم الشخصية. ولكن إن سلّمنا بوجود هذا القسم من المعلقين المستفَزين دينيا، فلا يمكننا في الوقت نفسه أن نتجاهل وجود أشخاص آخرين كثيرين (قد نعرفهم شخصيا من المعارف والأصدقاء) ممن لا يتمتعون بتلك الحساسية الشديدة تجاه الإيحاءات والألفاظ الجنسية، لكنهم أيضا علقوا بغضب أو استنكار. أضف إلى ذلك وجود العديد من التعليقات التي كانت في مستوى بذاءة المقاطع (وبعضها ملفق كما تبيّن) أو أكثر، بل وصلت إلى التعرض لشرف الكاتبة والطعن فيها وشتمها، مما يناقض منطلق الدفاع عن الأخلاق أو الآداب العامة. نحن بحاجةٍ إذن إلى أداة تفسيرية أخرى تبحث في منطلق آخر غير العامل الديني أو الأخلاقي.

الصورة
يذهب هذا المقال إلى أنّ هناك منطلقًا آخر وراء الكثير من ردود الفعل التي ظهرت، ويعود إلى شعور الفرد (العماني في هذه الحالة) بمسؤوليته في الحفاظ على صورةٍ معينة يحاول من خلالها إعادة بناء هويةٍ لمجتمعه ودولته. لقد عملت الدولة العمانية منذ النهضة الحديثة في عام 1970م بكل قوة وإصرار على تحسين صورتها، في محاولة لخلق هوية جديدة تزيح الصورة غير الحميدة التي انتشرت عن عُمان قبل تولي جلالة السلطان مقاليد الحكم في 1970م. لا يخفى على أحد أن عُمان كانت تعيش عزلة وتخلفا مدنيا كبيرا، وأميّة متفشية، مما اضطر العديد من العمانيين إلى الهجرة إلى دول الخليج والعمل في وظائف متواضعة (وأحيانا متواضعة للغاية). كتب أحد الصحافيين الأجانب ذات مرة عن عُمان يقول: "قبل 40 سنة فقط، حين كان يستعد أول إنسان للهبوط على سطح القمر، كانت العاصمة العمانية مسقط تُغلق بوابتها في المساء".

هكذا، وفي الوقت الذي كانت تسابق فيه الحكومة الزمن إلى بناء الدولة العصرية وإنشاء المؤسسات ونشر التعليم، كان هناك خطٌ يمشي بالتوازي وعلى مهل، ألا وهو إعادة إنتاج الهوية. لذلك يُلاحَظ الاهتمام الكبير الذي أولته الدولة بترجمة الدراسات التي تناولت عمان تاريخا وآثارا وفنون وغير ذلك، إلى جانب الاعتناء ببعض المعالم الرمزية والتراثية التي يمكنها الإسهام في تشكيل الهوية الجديدة. كان يُراد لهذه الهوية أن تكون متفردة تستلهم عراقة الماضي وتدخل في المستقبل بحذر دون تقليد أو تبعية.

جدير بالذكر أنّ محاولات السلطة الحاكمة في إعادة إنتاج الهوية لا تنجح دائما، ذلك أنّ من شروط نجاحها أن يتبناها الشعب ويخلص لها (في إيران مثلا، لم تفلح محاولات الشاه في "ثورته البيضاء" أن يعيد إنتاج الهوية، وفي وقتٍ لاحق استطاع آية الله الخميني فعل ذلك إلى حدٍ كبير). في عُمان نجح ذلك منذ البداية، خاصة وأنّ تأكيد الدولة على الهوية الإسلامية (في محاولة لمقاومة الفكر الشيوعي) لاقى قبولا شعبيا. وهكذا وبسبب الشخصية الكاريزمية لجلالة السلطان قابوس، فقد استطاع نقل الحماس "الرسمي" لإعادة إنتاج الهوية من السلطة إلى الشعب بسلاسة، فأصبح الناس هم من يذودون عن هذه الهوية ويدافعون عنها. هذا الأمر ربما أصبح أكثر وضوحًا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، حيث سرعة تداول المنشورات، وحيث يمكن لكل شخص أن يكتب وأن يعبّر عن رأيه.

الانعكاسات
بطبيعة الحال هناك جوانب إيجابية لتبنّي المجتمع عملية إعادة إنتاج الهوية، مثل الحفاظ على الموروث والاعتزاز باللغة والوعي بالدور الحضاري التاريخي، وما إلى ذلك، بيد أنّ الأمر يبدو وكأنه أفضى أيضا إلى نتيجة عكسية، وهذا قد يعود إلى أمرين اثنين. الأول هو التشديد الرسمي المتواصل على مسألة الهوية والخصوصية، مما نقل إحساسًا إلى الفرد العماني بأنّ الحفاظ على الهوية قضية مصيرية لا تقبل أي تساهل أو مرونة، وبأنّ التهاون في الحفاظ على الهوية ستكون له عواقب وخيمة ليس فقط على الدولة بل على المجتمع نفسه. أدى ذلك إلى لجوء العماني في لا وعيه إلى استراتيجية دفاعية ناتجة عن الخوف من تهديد الهوية. أما السبب الثاني فهو أنّ السلطة متى ما نقلت هذه الوظيفة إلى الجماهير، يصعب عليها توقع التصرف الذي ستنتهجه تلك الجموع، وما هي المحددات التي قد تضيفها أو تضخّمها في مسألة الهوية، وهل ستمتلك تعريفا واضحًا للهوية أم أنها ستخلطها بتصوّرات أخرى؟

من مظاهر ذلك يمكننا أن نرصد الاحتفاء الشعبي (المبالغ فيه) بأي مديح خارجي يُذكر عن عُمان أو جلالة السلطان أو مفتي السلطنة أو أية شخصية عامة تمثّل هذا المجتمع. يكفي أن يُنشر مقال مادح حتى ينتشر بسرعة هائلة عبر الهواتف ووسائل التواصل الاجتماعي. وبالدرجة نفسها من الحدة يكون تعامل الفرد العماني مع النقد الخارجي (والداخلي أيضا)؛ إذ تتبدى حساسية شديدة وتحفّز كبير إزاء النقد أو الهجوم على البلد، وتبدأ التعليقات المستنكرة تتوالد، مع انتظار مقال أو تغريدة مفنّدة يحتفي بها العمانيون ويتناقلونها بكل حماس وفخر، شاعرين بمسؤوليتهم الاجتماعية في الذود عن الوطن وصورته (=هويته)، مما يعكس خوفا داخليا من أي تهديد على الهوية/الصورة.

الملح وأشياء أخرى
في هذا السياق يبدو أنّ الإنسان العماني الذي يعيد (مع السلطة) إنتاج هويته، يريد أن تكون صورة المجتمع العماني متفردة، نقية، صافية أمام عين الآخر حتى لا يفكر في خدشها. وهذه الرغبة في الحفاظ على صورة العماني (الطيب، المتواضع، المسالم، المتسامح، الكريم، المضياف، المحافظ) تجعله في صراع مستمر، ما بين الواجب في إصلاح الخلل في الداخل، والواجب في الذود عن الصورة النقية أمام الخارج، بل إنّ الصراع يتوسع كذلك إلى واجب الدفاع عن الهوية/الصورة في الداخل أيضا خوفا من "النخر" الداخلي الذي يمنح الآخر فرصةً للانقضاض.

لذلك يبدو أنّ العماني وهو في هذه العملية من الحفاظ على هويته الجديدة، كان من الصعب أن يتقبل ما قامت به مؤلفة المجموعة القصصية؛ فهو يراها امرأة عمانية لا يجوز أن تظهر بصورة المرأة "البذيئة" في العلن، ومن ناحية أخرى لا يتقبل أن تلمّح المؤلفة بوجود تلك الانحرافات الأخلاقية في مجتمعه الذي يريد أن تبقى صورته نقية، وحتى إن اعترف بوجودها في نفسه فإنه لا يريد أن يراها مطروحة أمامه على الطاولة. وفي غمرة انفعاله لم يختر السكوت عن الموضوع وتركه يمضي دون ملاحظة، بل اختار أن "يتبرأ" من تلك المرأة، أن يضحّي بها لتأكيد ذاته، أن يطردها من الجنة التي حدّد هو معالمها، كي "يطهّر" نفسه ويؤكد لنفسه من جديد أنه أهل لتلك الجنة/الصورة. حدث هذا في الوقت الذي يعلم فيه الشخص المهاجم في قرارة نفسه أنّ تلك الأسطر –على فجاجتها وبذاءتها- ليست هي الخطر الفعلي على الشباب وأخلاقهم، ويعلم أنّ وصول أشكالٍ أدهى من الانحرافات إلى أسرته أو أطفاله عبر الإنترنت أقرب بكثير جدا من وصول الانحراف عبر مجموعة قصصية، لكنّه الفزع على صورة المجتمع والدولة (هذا التحليل يتجاهل نظريات المؤامرة المطروحة).

ويبدو أنّ هذا هو ما حدث أيضًا في قضية صحيفة The Week قبل أشهر حين نشرت تقريرا صحفيا جريئا عن العلاقات المثلية في عُمان وانتفض الشارع غاضبا. من ناحية، ليس من الصدق في شيء أن ننكر وجود العلاقات المثلية في عُمان (كأي مجتمع بشري آخر)، ولا أن نتجاهل حوادث التحرش الجنسي المتكررة في مدارس الذكور خاصة، لكنّ التقرير بفجاجته أثار غضب العمانيّ إذ نال من صورته أمام نفسه قبل الآخرين وبدا وكأنه "يتسامح" أو "يتعاطف" مع المثليين بدلا من أن يتبرأ منهم تطهيرا للهوية الجمعية. يعرف الناس الآن أنّ هناك أماكن يلتقي فيها الباحثون عن هذه المتع، ويعرفون أنّ وسائل التواصل الاجتماعي (التي يستخدمونها لشن هذه الحملات الغاضبة) قد وفّرت مجالا أسهل لهؤلاء كي يتعارفوا، لكنهم من الصعب عليهم أن يقبلوا المساس بهويتهم هكذا علنا.

ما ذُكر أعلاه اجتهاد تحليلي يحاول أن يجد تفسيرا آخر غير المنطلق الديني والأخلاقي، وهو يتقاطع مع مجتمعات أخرى أيضا، فليس الهدف هنا "جلد" المجتمع، وإنما محاولة استيعاب ظواهره. هذا الاستيعاب ضروري كي يحذر المجتمع من خطورة الدفاع الأعمى عن صورته قبل مكاشفة نفسه ومناقشة مشكلاته بشفافية؛ ولا أحد يرغب في أن يصل المجتمع إلى مايعرف بـ"النرجسية الجمعية collective narcissism" حيث يؤمن بنقاوته وتميزه وتفرده بل وواجبه المقدس في الحفاظ على تلك النقاوة (طبقا لتفسيره) ووجوب غلبته على من سواه، إلى درجةٍ يفقد معها روح التسامح في داخله، قبل فقدانها مع الآخرين.

هناك 11 تعليقًا:

  1. هذه سمات المجتمعات المحافظة ولا يتطلب الأمر أن ندخل (التصنيع الحكومي) لتفسيرها.
    الجهد الحكومي ينصب على دمج النظام السياسي كجزء أساسي ضروري بحيث يعد من يهاجمه مهاجما"لهذه المعاني والقيم ,عملية اختزاليةنجحت فعلا!.
    هناك نقطة مهمة ليتك ناقشتها وهي المواجهة العنيفة التي صارت بين وجوه (ثقافية) والجمهور الغاضب , التي انتهت برمي الأول للثاني بالقطيع والشعب الفارغ والشهواني , وهجوم الثاني على الأول بحيث أسقطه من الموقع الذي وضعه لنفسه بوصفه موجها" مستنيرا" للمجتمع

    ردحذف
  2. مقال جميل وعميق يكشف الكثير منا ، ويفنند سيكيولوجية الإنسان العماني بطريقة مختلفة ....
    بورك قلمك أيها العزيز

    ردحذف
  3. يبقى قلمك الاميز اخي أحمد

    ردحذف
  4. مقال عميق جدا جدا وتحليلي لا أعرف متى قرأت شيئا مماثلا منذ فترة طويلة عن مجتمعنا للأسف ... بالفعل هي صورة مرسومة والكثير متمسك بها بشدة...وعندما تظهر اشكاليات على السطح لا يتقبلها ولا يتحملها...ولا مانع من بقائها تحت السطح طالما أنها غير مكشوفة!!
    أحداث 1970م شكلت هوية لاتزال إلى اليوم موجودة آثارها، كانت الهوية إسلامية لمواجهة الشيوعية، لكن عُمان اليوم ليست عُمان 1970م، والحقيقة أن هناك انفتاحا أو (علمانية) ملحوظة ولو أنها بشكل غير رسمي
    هناك عقلاء كثر...ربما يحتاجوا للظهور أكثر، للوساطة بين الصورة السابقة وبين الواقع الحالي، خاصة بعدما حدث في العيد الوطني السابق من أحداث طفت على السطح وهي أمور قابلة للتكرار

    ردحذف
  5. تحليل جيد غير أنك برأيي بالغت قليلاً في الدور الحكومي لتشكيل الهوية المجتمعية, حيث أعتقد بأن الهوية العمانية متصلة وليست جديدة بفعل توجه حكومي شكلها بداية النهضة و الحقيقة أن الحكومة و المجتمع حاولا اللحاق بركب التطور ولكن بدون الخروج عن الهوية العمانية الأصيلة كما ارى انك تجاهلت دور بعض ممن يدعي الثقافة والنخبوية ممن تنتمي لهم الكاتبة ومحاولتهم في إختطاف الهوية العمانية ورغبتهم في تشكيلها من جديد بمعزل عن الأكثرية العمانية التي لا تزال كما ذكرت ترغب في الاحتفاظ بهويتها النقية المثالية و تود المحافظة عليها و لك الشكر على كتابتك لهصا المقال

    ردحذف
  6. المقال يحلل ما حدث من زاوية إنسان واعي لما يدور حوله من أحداث..شكرا لما خطه قلمك...

    ردحذف
  7. ليست المشكلة في مواجهة الاعتراف.. أن تعترف بوجود علاقات جنسية من اي شكل يختلف كثيرا عن سردك لأدق تفاصيلها بشكل يكاد يعادل مشاهدة فيلم إباحي.

    ما ورد في "الملح" لم يكن اعترافا ولا مواجهة.. كان فيلما إباحيا نصيا.

    ردحذف
  8. نشر جميل لكن في ظل هذا التغير الحتمي الذي لا نستطيع ان نوقفه لابد من محاسبة من يتجراء على القيم والاخلاق وان يكون هناك رادع حقيقي حتى لا تتفشى الرذيلة بين المجتمع علانية ولا بد من اصلاح العيوب بالتي هي احسن .

    ردحذف
  9. ما ورد في المقال من اجتهادات تحليلية وفلسفية، لا يمت بصلة بما ورد في ذاك الكتاب "القذر"
    انتم كلكم مجموعة متعاونة فالسراء والضراء

    غسلت ايدي منك لما وضعت المغامرة هدى الجهورية رئيسة مجلة اكثر من حياة..

    وأكملتها الآن بدفاعك عن هذه العلمانية !!

    الله يستر من عنوان كتابها القادم .!!

    ردحذف
  10. لابارك الله فيكم انتم وأفكاركم يامن تدعمون بدريه ومن على نهجها القذر في صورة أدب ،،، قاتلكم الله

    ردحذف
  11. سيف المحروقي9 أبريل 2014 في 9:59 ص

    تحليل علمي ومنصف جدا

    ردحذف