كتبتُ مقالا فيما مضى عن روايةٍ أميركية من روايات الخيال العلمي بعنوان "Sandstorm" تدور أحداثها حول أسطورة "أوبار" في جنوب عُمان، واستغربتُ حينها أنّ العمانيين أصحاب هذا الإرث لم يوظفوه في عملٍ أدبي، بينما جاء كاتب أميركي واستخدمه إبداعيًا. وقبل أيامٍ كنتُ أتحدث مع أحدهم فذكر لي حكاية ذات نكهةٍ أسطوريةٍ شعبيةٍ حدثت في عائلته وأكاد أجزم أنها متكررة في الذاكرة الشعبية العمانية، وهي تصلحُ بامتيازٍ أن تكون قصة قصيرة أو أساسًا لرواية ممتعة. لا شكّ لديّ في أنّ المخزون الشعبي العماني يحفلُ بعشرات الحكايات والأساطير التي تنتظر التوظيف الأدبي بطريقةٍ أو بأخرى. في هذا المقال نتحدث عن أحد الأعمال الأدبية التي استخدمت أسطورة عمانية شعبية هي "المغايبة" (أولئك الذين يأخذهم السحرة ثم يعودون إلى حياتهم) وتناولتها بطريقة جديدة، وهي رواية "حفلة الموت" لـ(فاطمة الشيدي) التي صدرت عام 2009 عن دار الآداب في 152 صفحة. والمؤلفة ناقدة وأكاديمية عُمانية لها دراسات نقدية كما أنها شاعرة أصدرت ثلاثة دواوين شعرية. وسنرى أنّ الرواية التي نحن بصددها تعكس شخصية المؤلفة، حيث الحضور الشعري الطاغي، وحيث التوظيف الإبداعي لمفردات الثقافة الشعبية أو إخضاعها للدراسة والتحليل، وهو ما يُنتظر حقًا من الأكاديميين.
أولُ ما يشدّ الانتباه في هذه الرواية غلافها، حيث نصطدم بعنوانٍ محيّر، ولوحةٍ فنية مثيرة . أما العنوان فكان اختياره موفقًا جدًا لجذب القارئ، إذ ما الذي يُمكن أن يجمع بين الاحتفال والموت؟ وأما اللوحة فنرى فيها رجلا وامرأة كل منهما إلى طريق مختلف، الرجل واضح المعالم نسبيًا واضح الألوان، أما المرأة فلا نرى منها إلا السواد، كأنها ظل، كأنها كائن بلا روح. وبين الرجل والمرأة نجد قطًا أسود له عينان برّاقتان ينظر مباشرة إلى القارئ. حقيقة لا أعرف هل تُعتبر هذه اللوحة موفقة أم لا، فهي من ناحية تهيئ القارئ للمناخ العام للرواية، إلا أنها -مع الغلاف الخلفي- تشي بأكثر مما ينبغي.
جاءت هذه الرواية القصيرة في 15 فصلا تتوزع أحداثها ما بين نزوى ومسقط والبحرين ولندن. تبدأ الرواية من الحاضر في جامعةٍ بحرينية حيث تتولد شرارة حبٍ بين بطلة الرواية الطالبة العمانية (أمل) ورئيس جماعة الفنون التشكيلية في الجامعة (أحمد الريّان). وتنجحُ المؤلفة في إثارة القارئ وتشويقه منذ الصفحات الأولى وفي سطورٍ بسيطة يُفهم منها أن هناك ماضٍ في حياة (أمل) يقف في وجه هذا الحب الوليد، حيث تقول: "أيها المجنون لا تلاحقني...ابتعد عني، فالمستحيلات في عمري أكثر من الغول والعنقاء والخلّ الوفي...يا إلهي، احمني منه، واحمه مني" (ص10-11). ورغم وعي البطلة بهذه المستحيلات إلا أنه وكالعادة في قصص الحب الجامعية تأبى هذه المشاعر إلا أن تتحقق في علاقة حب لا تعترف بحواجز ولا تنظر إلى مستحيلات. ومن هذا الحاضر نعود إلى الماضي لنكتشف السرّ الكبير في حياة (أمل) وما يشكله من عوائق لعلاقة حبها بأحمد. وبعد انتهاء الدراسة تعود أمل إلى عمان ويقلّ تسارع الأحداث ليدخلَ القارئ في حديث ذاتي طويل تسترجع فيه أمل الذكريات وتقرأ الواقع، ثم تسافر إلى لندن للدراسة ويبدأ تسارع الأحداث إلى أن تنتهي الرواية هناك في بلد الضباب.
من حيث البناء السردي اختارت المؤلفة أن تُروى الرواية من أولها إلى آخرها بصوت البطلة أمل، وهو خيارٌ مفيد جدًا للرواية حيث إن القارئ لا بد يتشوق لأن يرى الأشياء كما رأتها وشعرت بها صاحبة التجربة أو الضحية. ويُلاحظ في الرواية ندرة الحوار، واعتماد المؤلفة على المناجاة الذاتية "المونولوج". وعلى الرغم من المتعة التي تحققها هذه المناجاة في سردٍ لتجربةٍ أليمة تكشف صراع النفس مع الآخرين ومع ذاتها، إلا أن المؤلفة ربما بالغت في استخدامها حيث نجد صفحاتٍ طويلة لا يقطعها إلا سطران أو ثلاثة من الحوار، مما يسبب نوعًا من الرتابة.
ولا بدّ لنا من الاعتراف بالطريقة الجميلة التي تناولت بها المؤلفة أسطورة "المغايبة"، حيث يجد القارئ سردًا لعملية "التغييب" يُشبع قدرًا من فضوله، ويضفي على الرواية جوًا غرائبيًا ممتعًا، بدءًا من رؤية "المعلّم" للفتاة ثم سرقتها ثم إدخالها في تلك الطقوس الشيطانية وانتهاءً بعملية إعادتها إلى الحياة. ولقد أجادت المؤلفة في وصف كل ذلك و التبعات الغرائبية لاحقًا في الرواية لتكسر رتابة الأحداث. وبعد أن تصل المؤلفة بالقارئ إلى قمة الترقب والاندماج مع هذا الجو الأسطوري تختتم الرواية بحدثٍ غير متوقع، قد يكون رسالة جريئة من المؤلفة سيقف عندها القارئ -العماني خصوصًا- وقفة طويلة مُسائلة.
وفي الحقيقة فإن قضية "المغايبة" ليست الثيمة الرئيسة في الرواية أو مرتكزها الأساسي، فكان يُمكن استبدال هذا المكوّن الأسطوري بقضية اجتماعية أخرى تقف عائقًا أمام أحمد وأمل. في رأيي هذه الرواية نسوية بامتياز، وما جاء استخدام "المغايبة" إلا رمزًا لخدمة هذه الثيمة. فالتغييب الأسطوري رمز للظلم الواقع على المرأة من سلطة المجتمع الأبوي وسلطة من يتحدثون باسم الدين ومن النظرة الاجتماعية القمعية العنصرية، ورمز لتغييب المرأة فكريًا واجتماعيًا واختصارها إلى مادة للمتعة. نجد البطلة تهاجم الرجال بكل قسوة، تصفهم أحيانا بـ"حيوانات كأبي وعمومتي وجميع أبناء البلدة" (ص13) وأن كلا منهم "نخاس يبحث عن جارية لبيته" (ص13) و "لا يعرفون سوى الطعام والجنس ودور السيادة" (ص91)، ثائرة على كل ذلك حيث تقول لأمها "لن أتزوج أي حمار ورث النهيق، كما ورث كل صفات الرجولة المزعومة" (ص90)، مستنكرة موقف النساء الراضيات بهذا الدور، وفي أواخر الرواية في رسالة إلى حبيبها تصف ما تنتظره من الرجل في معاملته إياها. هي رواية النساء المظلومات المخدوعات المقهورات، بدءًا من "العبدة" التي انتهك الشيخ شرفها ثم اضطر لتزوجها، وانتهاءً بزميلات أمل في لندن اللائي يشتكين من رجالهنّ. وسيلاحظ القارئ بوضوح أن الشخصيات الذكورية في الرواية سيئة جدًا ، فهناك الساحر، وهناك الأب السيد السجّان القاتل، وهناك الخائن والمتحرش جنسيًا والعنصري، أما الاستثناءات فهي خارج بلدة البطلة: الحبيب في البحرين، والزميلان في مسقط، والطبيب في لندن.
وأما عن الاستخدام اللغوي في الرواية فيمكن الحديث عنه في عدة نقاط. أولا، نجد أن اللغة مُغرقة في الشعرية، وهذا بالطبع مُتوقع وليس بغريب على شاعرة مثل فاطمة الشيدي، ومن استمتعَ بروايات أحلام مستغانمي ومحمد حسن علوان مثلا سيجد نشوة لغوية كبيرة في هذه الرواية، حيث سيقرأ مقاطع بديعة من قبيل "فأن تكون كائنًا متألها بالحزن والجنون معًا، صوتًا متفردًا ومقدودًا من جرح شهي على ناصية موت في الآن ذاته، فتلك معادلة غير عادلة!" (ص31). ونحن إذ نعترف بهذه اللغة الجميلة لا بد أن نشير إلى أنّ فاطمة الشيدي الشاعرة طغت على الروائية، فانعكس ذلك في لغةٍ حالمةٍ متكلفة غير واقعية أحيانًا وغير مقنعة في سياقها خاصة في بعض الحوارات. فمثلا في بداية حوار بين الحبيب والحبيبة يسألها قائلا: "أيتها الأمل مذ رأيتكِ رأيت يدَ الله مفتوحة لتقدم لي الحياة، وتنهي رحلة البحث..كيف هي غاليتي؟" فتجيبه: "متصدعة كأرض جرفها الوادي وتشققت أخاديد وصدوعًا، متكسرة كمرآة حجرتي القديمة، متبعثرة كوجهي في تلك المرآة" (ص65)، وهذه لغة تبدو أقرب إلى فاطمة الشيدي منها إلى أمل أو أحمد. ثانيا، استخدمت المؤلفة اللغة العامية في الحوارات كي تضفي واقعية للنص وتمثيلا للمكان والثقافة التي تنتمي إليها الشخصية المتحدثة، إلا أنّ هذا الاستخدام كان مرتبكًا وغير دقيق. فمثلا اللغة التي يستخدمها أحمد لا تمثل جنسيته البحرينية أو لهجة أمه العراقية خير تمثيل، بل إن هناك كلمات يستخدمها هي أقرب إلى الكويتية مثل "مو الشكل، طيبين حيل، يا معودة". هذا ولا نجد في كلام أمل ووالدتها وأهل نزوى ما يمثل لهجة المنطقة الداخلية، بل هناك كلمات من مناطق أخرى في عمان مثل "شو؟ [أي ماذا؟]" و "مًشِي [أي لا يوجد]"، فهل هذه اللهجة العمانية البيضاء التي تجمع بين مناطق عمان مقصودة لغرض أرادته المؤلفة؟ أما الملاحظة الأخيرة فهي محاولة الكاتبة المزج بين العامية والفصحى في الحوارات، وهي تقنية استخدمها روائيون آخرون بطريقةٍ رائعة في مستوى وسطٍ بين العامية والفصحى، إلا أن المؤلفة لم تُوفق كثيرًا في هذا الاستخدام بسبب عشوائيته وعدم ثباته، حيث تُقحَم العامية في موضع، وتختفي تمامًا في مواضع أخرى في الرواية دون معيار واضح أو ثابت.
ختامًا نقول بأنها بداية روائية جيدة وظّفت أسطورةً عمانية لخدمة ثيمتها بصورة فريدة، وكان يُمكن أن تكون أكثر إمتاعًا وأكثر إقناعًا لو ابتعدت عن المباشرة في طرح القضية النسوية التي جاءت في بعض المواضع فيما يشبه الخطابات النسوية التي ألفناها في الكثير من المقالات والخواطر الأدبية وأشعار نزار قباني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق