الاثنين، 5 أبريل 2010

النشر الإلكتروني...مازن حبيب نموذجًا


إن كنتَ من المتابعين لعالم الإصدارات والنشر فبالتأكيد قد سمعتَ عن الجدل المستمر المتزايد حول العلاقة بين التقانة والكتاب، من حيث أثر المنتجات التقانية على معدلات القراءة، وتأثير القارئات الإلكترونية على مبيعات الكتب، ومشروع جووجل الكبير لرقمنة الكتب وتخزينها إلكترونيًا للراغبين في تصفحها. وفي الحقيقة فإن نشر الكتب إلكترونيًا أو ما يُعرف بالنشر الإلكتروني قد أصبح صناعة مستقلة لها دور نشر وموظفون ودورات تدريبية وبرامج حاسوبية ومواقع إلكترونية متخصصة. هي إذًن ثورة جديدة في عالم الكتب والقراءة، يختلف حولها الكثيرون، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر الاهتمام المتزايد بها والتطورات السريعة الحادثة فيها، والإمكانات الكبيرة التي تعد بها. في هذا المقال نستعرض بعض المعلومات المتعلقة بالنشر الإلكتروني ومزاياه ونقائصه، ثم نلقي نظرة على تجربةٍ عمانية قد تكون الأولى من نوعها في مجال النشر الإلكتروني.

النشر الإلكتروني
إن المقصود بمصطلح "النشر الإلكتروني e-publishing" هو إنتاج الكتب والمستندات في صيغة إلكترونية لقراءتها عبر أجهزة إلكترونية مثل الحواسيب والهواتف المحمولة و القارئات الإلكترونية التي بدأت تنتشر في السنين القليلة الماضية وتكتسب إقبالا كبيرًا نظرًا لإمكانية تخزين أعداد كبيرة من الكتب فيها. هذا وتندرج تحت النشر الإلكتروني أيضًا "الطباعة تحت الطلب print-on-demand" حيث يُمكن طباعة نسخة واحدة من الكتاب في كل مرة بدلا من آلاف الكتب في كل طبعة كما في دور النشر الورقية. هذا ويتخذ النشر الإلكتروني أشكالا مختلفة، فيُمكن أن يكون الكتاب أو المستند في ملفٍ يجب تحميله لقراءته، أو يُمكن قراءته مباشرة من موقع إلكتروني، وهناك كُتب تُصدر للتوزيع المجاني، في حين توجد كتب أخرى للبيع عبر دور نشر إلكترونية. وحاليًا هناك توجه كبير لدى المجلات العلمية للتحول إلى النشر الإلكتروني، أو على الأقل توفير نسخ إلكترونية من أعداد مجلاتها للبيع. هذا وتخصص بعض المكتبات الشهيرة على الإنترنت أقسامًا مخصصة للكتب الإلكترونية، مثل مكتبة "Amazon" و "Barnes & Nobles"، في حين توجد مكتبات متخصصة في الكتب الإلكترونية فقط نضرب مثالا عليها "المكتبة الإلكترونية العربية www.arabicebook.com". ويُمكن للمؤلف أن ينشر كتابه بنفسه، أو يتعاقد مع دار نشر إلكترونية تنشر له كتابه.

ميزاته
(1) تتجسد أكبر مزايا هذا النوع من النشر في خفض التكاليف؛ فيمكنك إنتاج مئات الآلاف من النسخ دون تكاليف طباعة و توزيع. (2) ولأنّ الأمر غير مكلف، فإن الناشر الإلكتروني لا يفرض معايير صارمة على المخطوطات المقدمّة، أي أنّ الكاتب الجديد الذي قد ترفض دور النشر الورقية نشر كتابه لديه فرصٌ أفضل مع الناشر الإلكتروني لأنه لن يخشى من خسارة مالية. (3) يُمكن توزيع الكتاب الإلكتروني إلى كلّ مكان في العالم بسرعةٍ شديدة بخلاف الكتاب الورقي. (4) لا تتطلب الكتب الإلكترونية مساحات كبيرة لتخزينها كما هو الحال مع الكتب الورقية، وهذا أمرٌ مقلق للناشرين. (5) يسمح الكتاب الإلكتروني بإدراج جميع أنواع الوسائط المتعددة كالصور والأفلام والتحريكات والأصوات لتعزيز المحتوى، وهذه ميزة رائعة لم تُستغل جيدًا بعد. (6) نسبة الأرباح التي يحصل عليها المؤلف من مبيعات الكتب الإلكترونية قد تصل إلى 70%، بينما لا تتعدى في الكتاب الورقي 15% (7) الكتب الإلكترونية أقل ضررًا بالبيئة.

نقائصه
(1) على الرغم من قلة التكاليف وزيادة نسبة أرباح المؤلف، إلا أن معدّل مبيعات الكتب الإلكترونية ما يزال ضعيفًا جدًا، حيث يُقدّر متوسط مبيعات الكتاب الناجح حوالي 500 نسخة فقط. (2) القارئات الإلكترونية والحواسيب ما تزال غالية الثمن وليست في متناول أغلب الناس، بخلاف الكتاب الورقي. (3) يمكنك قراءة الكتاب الورقي في أي مكان، بينما إن لم تكن تملك قارئًا إلكترونيًا أو هاتفًا محمولا مزودًا ببرنامج قراءة الكتب فلن يمكنك قراءة الكتب الإلكترونية إلا على حاسوبك المكتبي أو حاسوبك المحمول الذي لن تكون مرتاحًا لنقله معك أينما ذهبت. (4) القراءة الإلكترونية تتطلب إلمامًا بالتقانة، وهذا ما قد يستبعد شريحة كبيرة من الناس. (5) يتطلب النشر الإلكتروني تسويقًا كبيرًا للكتاب لأن القارئ لن يجده معروضًا في معارض الكتاب أو على واجهات المكتبات. (6) أسعار الكتب الإلكترونية حاليًا رغم انخفاض تكلفتها ليست أرخص بكثير من النسخ الورقية، وهو أمر غير مشجّع للقارئ. (7) الجهد المبذول لقراءة كتاب إلكتروني أكبر مما هو مع الكتاب الورقي، حيث يتطلب الأمر تشغيل الجهاز والضغط على الأزرار لتقليب الصفحات وتكبير الخط، إضافة إلى تحميل الكتب.

ونحنُ إذ نسرد هذه النقائص لا نتخذ بالضرورة موقفًا سلبيًا منها، والحقيقة أن سوق النشر الإلكتروني تتطور باستمرار، والأجيال الجديدة تقبل على الكتاب الإلكتروني أكثر من الأجيال السابقة، وهكذا فمن المتوقع أن تتغير الإحصائيات وبعض السلبيات المذكورة بعد سنين قليلة.

مازن حبيب..إلكترونيًا
خلال أيام معرض مسقط الدولي الخامس عشر للكتاب، كان هناك احتفاء مستمر ومهووس بالمؤلفات العمانية الجديدة، ما بين أخبار في الصحف والمواقع الإلكترونية، وحفلات توقيع، ومقابلات إذاعية وتلفزيونية، وأمسيات تدشين. كتّاب جدد وآخرون متحققون وآخرون يجرّبون، وكنا نستعد في كل لحظة أن نسمع عن كاتبٍ أو كتابٍ عماني جديد، ونستمع إلى النقاشات الدائرة بين الكتّاب عن دور النشر التي تعاملوا معها وانطباعاتهم واستيائهم أو رضاهم، والدور الجديدة المكتشفة. في خضمّ ذلك كله ودون سابق إنذار سمعنا عن كتابٍ جديد للقاص (مازن حبيب)، فاستغربنا أننا لم نجده في دور النشر المشاركة، حتى تبيّن لنا أن الكتاب إلكتروني غير مطبوع! وقد أثار ذلك أسئلة كثيرة حول هذه التجربة الجديدة، وتوقيت إصدار هذا الكتاب الإلكتروني بينما القراء كلهم منهمكون في أروقة معرض الكتاب.

كتاب "خارج مناطق الألم..مراعاة لفارق الجرح" عبارة عن يوميّات جاءت في 110 صفحات سجّلها المؤلف ما بين يناير 2007 و يناير 2009، تحدث فيها عن مشاهداته وانطباعاته وتأملاته الفلسفية والوجدانية. ومن أهمّ سمات الكتاب أنه واقعي يعكس حالات الإنسان المختلفة، فهناك الالتقاطات اليومية كأن يحدّثك عن عبدالكريم عبدالقادر أو رحلة بحثٍ عن فيلم، وهناك النظرة الفلسفية لأمور قد لا نقف عندها، وهناك الإسقاطات النفسية والاجتماعية على الحاضر أو الذكريات. كما تتجسّد الواقعية أيضًا في كتابة بعض اليوميات باللغة الإنجليزية، كون المؤلف يتقن هذه اللغة ويفكر بها أحيانًا (ولمعرفتي الشخصية بمازن كنت سأستغرب إن لم توجد يوميات إنجليزية في الكتاب). هذا وهناك أيام بل شهور كاملة لا نجد فيها أي يوميات، وهو أمر مُتوقع وطبيعي، حيث يمنعنا تقلب المزاج أو ظروف الحياة عن تدوين اليوميات، رغم أنّ هذه المساحات الفارغة قد تُشعر القارئ ببعض الإحباط. هو كتابٌ لطيف كتبه مازن حبيب بلغته السلسة الرشيقة والتقاطاته الذكية، تقرؤه في ساعةٍ أو نحو ذلك، إلا إن سمحتَ لنفسك بالتوقف للتفكير معه في ما يطرحه من أسئلة، أو استعادة ذكريات حركتها فيك ذكرياته.

عندما ننظر في تجربة مازن حبيب الإلكترونية نُلاحظ أنه استفاد من بعض المصادر والآليات المتعلقة بالنشر الإلكتروني. أوّل ما يلفت النظر ويستدعي التهنئة حقًا هو إنشاء إعلان مصوّر للكتاب، وقد أحسنَ مازن حبيب الاختيار حين ظهر في الإعلان داعيًا المشاهد إلى قراءة الكتاب، حيث إنّ ظهور المؤلف هكذا يخلق نوعًا من التواصل الافتراضي الحميم بين الكاتب وقارئه. ولقد راجت إعلانات الكتب المصوّرة مؤخرًا وخاصة في الغرب، وفي رأيي هي وسيلة إعلانية مُبدعة تعدّت حاجز الإعلانات التقليدية المطبوعة. من جهة أخرى حرص مازن على حفظ حقوقه مؤلفًا وناشرًا للكتاب، وذلك بإدراج صفحة في بداية الكتاب تشير إلى هذه الحقوق، إضافة إلى أن الكتاب جاء في صيغة (PDF) بحيث لا يسهل نسخ جزء من المحتوى ونقله. هذا واستفاد مازن من إمكانية إدراج الصور الملوّنة بسهولة، حيث نجد في إحدى اليوميات غلافا لفيلم يتحدث عنه.

ولكي لا يكون حديثنا مجرّد مديح وثناء، لا بدّ أن نسلّط الضوء على الجوانب الأخرى التي لم يستفد منها مازن حبيب في تجربته الأولى هذه. أولا، مع ثنائنا على استخدام فكرة الإعلان المصوّر، إلا أنّ من يعرف مازن حبيب السينمائي الذي أخرج أفلاما قصيرة لا بد يتوقع منه أكثر من ذلك بكثير، فتصوير إعلانٍ بسيط بهذه الطريقة قد يتناسب مع كاتبٍ آخر ولكنه أقل من المتوقع بالنسبة إلى سينمائي. ثانيًا، من الغريب أن المصمم عبدالباسط المعمري استخدم غلافًا بالأبيض والأسود في كتابٍ إلكتروني، في حين كان يمكن استخدام ألوانٍ تشدّ الانتباه نظرًا لغياب كلفة الطباعة. ثالثا، لم نلاحظ جدية مازن حبيب في تسويق كتابه إلكترونيًا، وهذا من أهم المتطلبات في النشر الإلكتروني. كان يُمكن لمازن مثلا أن ينشر إعلانات في المنتديات والمدوّنات العمانية كمرحلةٍ أولى حتى يصل الكتاب إلى أكبر عددٍ من القراء الإلكترونيين.

هي في الحقيقة تجربة جريئة جدًا خاصة في مجتمعاتٍ لم تعتد بعد على القراءة الإلكترونية. وأذكر أنني قرأتُ في منتدى من المنتديات الإلكترونية نقلا عن مازن حبيب أنه خاض هذه التجربة لعدم رضاه عن توزيع الكتب الورقية، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل سيكون توزيع كتاب مازن حبيب أفضل من توزيع دور النشر الورقية؟ أتطلع حقًا إلى انطباعات مازن عن هذه التجربة لاحقًا، وأتطلع أكثر إلى معرفة الأثر الذي ستتركه هذه التجربة على الكتّاب العمانيين الآخرين. سؤال أخير: في ظلّ تراجع نزعة التدوين الإلكتروني بين العمانيين، هل سنشهد موجة من الإصدارات الإلكترونية الجديدة للعمانيين، خاصة بين الكتّاب الجدد؟

هناك تعليق واحد: