الأربعاء، 14 أبريل 2010

عادات التفكير ما بين الشرق والغرب: عرض كتاب "جغرافية الفكر"



هناك نكتة تقول بأن الأمم المتحدة وزّعت استبانة حول العالم تسأل فيها السؤال التالي: "من فضلك هلاّ قدّمت لنا رأيك الشخصي الصادق حول الحلول لمشكلة نقص الغذاء في بقية أنحاء العالم؟"، وتبيّن من النتائج أنه في أفريقيا لم يفهموا كلمة "غذاء"، وفي الشرق الأوسط لم يفهموا كلمة "حلول" وفي الصين لم يفهموا معنى "الرأي الشخصي" وفي أميركا لم يفهموا معنى "بقية أنحاء العالم"! هي مجرد طرفة لا تعميمات تُرجى منها، ولكنها قد تشير إلى فروقٍ كبيرة بين شعوب العالم على مستوى التفكير. هذا ما يُحاول أن يقوله كتاب "جغرافية الفكر: كيف يفكر الغربيون والآسيويون على نحو مختلف ولماذا؟" الذي صدر عام 2003 ونُشرت نسخته العربية عام 2005 في سلسلة عالم الفكر بترجمة (شوقي جلال).

الكتاب من تأليف (ريتشارد إي نيسبت) البروفيسور في علم النفس الاجتماعي، ومدير مشارك في برنامج الثقافة والإدراك في جامعة ميتشيجان بالولايات المتحدة. صدرت له ثلاثة كتب كان آخرها "الذكاء وكيفية الحصول عليه: أهمية المدارس والثقافات" (2009) والعديد من الدراسات. ولقد حصل (نيسبت) على العديد من الجوائز العلمية والبحثية كان آخرها عام 2007 من جامعة فورزبرغ الألمانية. وفي الكتاب الذي نحن بصدده يحاول (نيسبت) إثبات أنّ التفكير ليس غريزة أو عادة ثابتة يشترك فيها جميع البشر في كل مكان، وإنما هناك عوامل ثقافية واجتماعية تؤثر فيه تأثيرًا كبيرًا وتشكّل طريقة عمله. وهكذا يقوم المؤلف بالمقارنة بين أساليب التفكير لدى الغربيين (وبخاصة سكّان أميركا وكندا) وتلك لدى الشرق-آسيويين، متتبعًا الجذور التاريخية والفلسفية والاجتماعية التي أنتجت هذين النمطين المتمايزين من التفكير.

يقارن الفصل الأول بين الأسس الفلسفية التي اتكأ عليها كل من المجتمع الغربي والمجتمع الشرق-آسيوي، فالمجتمع الغربي وريث الفلسفة الإغريقية التي اتسمت بتمجيد الحرية الشخصية والمسؤولية الذاتية عن الاختيار واستغلال الطاقات الفردية لتحقيق الإنجازات، ولم يكن غريبًا إذن أن يؤدي ذلك إلى نزعةٍ جدالية يحاول كل فردٌ بها إثبات تفوقه على الآخر، كما كان لدى الإغريق رخاء اقتصادي نسبي ساهم في تنمية فضولهم المعرفي وولعهم بإضفاء الصفات ووضع التصنيفات والقوانين. من الناحية الأخرى ورث الشرق-آسيويون الفلسفة الصينية التي تُعلي من قيمة التناغم والانتماء إلى الجماعة والالتزامات المتبادلة والحث على الإنتاج الجماعي، ولم يكن لدى الصينيين القدماء ولعٌ بالتجريد النظري المنفصل عن القيمة العملية، حيث أنتجوا الكثير من التقانات التي لم يعرفها الإغريق، ولكنهم لم يمتلكوا فضولا معرفيًا تجريديًا كبيرًا. العالم بالنسبة للإغريق بسيط يُمكن معرفته بالتركيز على صفات المواضيع ووضع قواعد كلية لها، في حين نظر الصينيون إلى العالم على أنه معقد يتكون من جواهر عديدة متفاعلة متبادلة التأثير، ولا سبيل إلى التعامل معه إلا بروح التناغم والتكافل والنظرة إلى السياق الكامل.

ولكنّ الفلاسفة الذين وضعوا هذه الأسس هم حقيقةً نتاج مجتمعهم لا صانعيه، وهكذا يُمكن رد الفوارق الفلسفية إلى فوارق اجتماعية تعود بدورها إلى فوارق بيئية جغرافية. في بلد مثل الصين حيث السهول الخصبة والأنهار تنشط الزراعة، مما يحتّم انتشار قيم التعاون والتكافل والانسجام، أما اليونان فمكونة من جبال وسفوح منحدرة نحو البحر شجّعت أعمال القنص والرعي والصيد والقرصنة، وهذه كلها لم تستوجب التعاون والانسجام. وهكذا فالمجتمع الزراعي يميل بطبعه إلى الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية والمجال العام للأمور، بينما المجتمع الإغريقي يبرز الفردية والاهتمام بالموضوعات وصفاتها من غير حاجةٍ إلى النظر في تأثير الآخرين أو المجال العام عليها.

أما الفصل الثالث فيتطرق إلى بعض القيم الاجتماعية ويقارن بينها في المجتمعين الغربي والشرق-آسيوي. يوضّح المؤلف أنّ الغربيين يُعلون من قيمة الذات كثيرًا ويربّون أبناءهم عليها كي تكون لهم ذوات مستقلة متميزة متفردة، في حين لا نجد ذلك لدى الشرق-آسيويين، فـ"النجاح هدف منشود، باعتباره هدفًا جماعيًا، وليس وسام استحقاق شخصي" (ص62). والإنسان في شرق آسيا يرى ذاته متداخلة مع الجماعة التي ينتمي إليها في مقابل الجماعة الخارجية، فيما يرى الإنسان الغربي ذاته منفصلة مستقلة عن أي جماعة. الغربيون يهتمون بقيمة الاستقلالية وتنشئتها منذ الصغر، فنجد مثلا أن الطفل الغربي ينام في سرير مستقل، بينما ينام أطفال شرق آسيا على السرير نفسه مع أبويهم، ونجد أن الأبوين الغربيين يعلّمان طفلهما أن يستقل برأيه وخياراته، فيما يفضل الشرق-آسيوي أن يختار لطفله لأنه يعرف أكثر منه. من ناحيةٍ أخرى أبرز الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية في شرق آسيا اهتمامًا بمشاعر الآخرين وقدرة على تقدير مواقفهم وتفهمها، وهذا غير بارز في الثقافة الغربية التي تؤمن بالقواعد الكلية الشاملة التي يجب تطبيقها على الجميع دون النظر إلى ملاءمة الحالات الفردية. ولا يفوت المؤلف أن يؤكد أنّ ذلك لا يعني أن جميع المجتمعات الغربية أو الشرق-آسيوية سواء في ممارستها لهذه القيم. ومن أكثر أجزاء هذا الفصل إثارة حديث المؤلف عن فن الخطابة والمحاججة وغيابه في الفكر الآسيوي، مما يؤثر على عدة ممارسات حياتية مثل النقاشات الديمقراطية وكتابة البحوث العلمية، وكل ذلك يعتمد بشكلٍ كبير على المحاججة.

وفي الفصل الرابع يحاول المؤلف التدليل على أن هذه الفوارق النابعة من الإرث القديم ما تزال موجودة في المجتمعات الحديثة، ويوضح أن الصينيين القدماء رأوا العالم مؤلفًا من جواهر متصلة ببعضها، بينما رأى الإغريق العالم مكونًا من جسيمات مختلفة، ويستشهد المؤلف بعددٍ من الدراسات والتجارب التي تثبت أثر هاتين النظرتين على المجتمعات الغربية والشرق-آسيوية، حيث ثبت أن الآسيويين لديهم اهتمام أكبر بالمجال والبيئة المحيطة بالأشياء وتفهّم العلاقات بينها، بينما يهتم الغربيون بالموضوع نفسه وصفاته منفصلا عن السياق العام. وإذا كان الأمر كذلك فمن المرجح أنّ المهتمين بالسياق سوف ينظرون إلى أحداث العالم على أنها ناتجة من تفاعل عدة عوامل في عدة سياقات، بينما ينظر الآخرون إلى الأحداث على أنها ناتجة من خواص الموضوع نفسه، وهذا ما يحاول الفصل الخامس إثباته. يروي المؤلف أن طالبًا صينيًا خسر في جائزة تقدّم لها فطعن في قرار لجنة التحكيم ولكن دون جدوى، فأطلق النار على الأستاذ المشرف عليه والشخص الذي نظر في رسالة الطعن وعدد من زملائه ثم قتل نفسه. وبمقارنة ما كتبته الصحف الصينية بالصحف الأميركية تبيّن أن الأخيرة تُرجع الأمر إلى صفات الطالب وشخصيته (سيء الطباع، سوداوي، لديه مشاكل نفسية)، بينما تحاول الصحف الصينية تفسير الأمر من خلال سياق الأحداث (غيرة الآخرين، عدم الانسجام مع المجتمع الصيني، خلاف مع المشرف، السماح بحمل الأسلحة). وكي يتأكد الباحثون من أن الفارق هذا لا يعود إلى نُصرة الصحف الصينية لمواطنها درسوا قضية مشابهة كان فيها القاتل أميركيا، فلم تختلف النتائج. ويخلص المؤلف في هذا الفصل إلى أن الصينيين يميلون إلى إرجاع الأسباب إلى السياق، فيما يميل الأميركيون إلى إرجاع الأسباب إلى السلوك الشخصي.

بعد ذلك يناقش المؤلف قضية تصنيف الأشياء، ويبيّن أن الصينيين القدماء لم يميلوا إلى تقسيم الأشياء إلى فئات حسب تشابه خواصها، وإنما إلى تأثير بعضها في الآخر، فقد كانوا يهتمون بعلاقة الجزء بالكل. أما الإغريق الذين كانوا يهتمون بالموضوعات فقد قسّموا الأشياء إلى فئات واهتموا بعلاقة الفرد بالفئة، بحيث يمكنهم بسهولة وضع قانون واحد ينطبق على جميع أفراد الفئة. وهناك تجربة طريفة أُجريت لتأكيد ذلك حيث عُرضت على المشاركين صورة لقرد ثم سُئِلوا أي الشيئين يلائم صورة القرد أكثر: الباندا أم الموز؟ أما الأميركان ففضلوا التصنيف الفئوي واختاروا الباندا لأنه يشترك مع القرد في فئة الحيوان، وأما الصينيون ففضلوا التصنيف على أساس العلاقات واختاروا الموز لأن القرد يأكل الموز. ويقول المؤلف بأن ميل الغربيين إلى الفئات وقصور ذلك لدى الشرق آسيويين يمكن ردّه إلى أسباب فلسفية ولغوية، فالصينيون القدماء لم يهتموا بالفئات (والتي تحتاج إلى أسماء)، بل ركزوا على العلاقات (والتي تبرز الأفعال). هذا ويسهل في اللغات الهند-أوروبية تحويل الصفات إلى أسماء، ومن السهل التفرقة بين المعرف والنكرة، بينما لا يوجد ذلك في الصينية واليابانية، والرمز الواحد فيهما له عدة معاني، لذلك يعتمد المستمع/القارئ على السياق. يتبيّن من ذلك أن هناك تأثيرًا واضحًا للغة على الفكر.

بعد ذلك يستعرض الكاتب الاستدلال العقلي في المجتمعين الغربي والشرق-آسيوي، ويوضّح أن المنطق حاضر بقوة في التفكير الغربي الذي يمجد المحاججة، فيما يقل الاهتمام به كثيرًا في التفكير الشرق-آسيوي الذي يمكن أن يطرح المنطق جانبًا إن كان لا يتوافق مع النماذج المعروفة (وهذا لا يعني أنهم لا يجيدون استخدامه). أما الفصل الأكثر إثارة وإمتاعًا فهو الفصل الثامن الذي يناقش أثر هذه الاختلافات الفكرية على المجتمعات الغربية والآسيوية (مثلا، في الطب الغربي نجد الاهتمام بالجزء المسبب للعلة وإزالته، فيما يهتم الطب الشرق-آسيوي بالعلاقات بين أعضاء الجسد والتوازن بينها) ويتحدث المؤلف عن تجليات هذه الاختلافات في القانون والجدل والعلم والخطابة والعقود وحقوق الإنسان والدين والعلاقات الدولية. وفي خاتمة الكتاب يناقش المؤلف إطروحة فوكوياما في نهاية التاريخ وتوقفه عند النموذج الغربي، وإطروحة هنتنغتون في صدام الحضارات، ويرفضهمها معًا مبينًا أن المجتمعات الحالية تنهج فكرًا غربيًا في بعض المجالات وفكرًا شرقيًا في مجالات أخرى، مؤمنًا أن النهجين سيلتقيان ويثريان عادات الفكر والإدراك البشري.









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق